كثيراً ما نصادف في المدارس والعيادات الصحية النفسية أهالي يأتون في جعبتهم الكثير من الادعاءات على سلوك أبنائهم المراهقين. هذه الادعاءات ليست غريبة على من مر في جيل المراهقة، حيث يحاول الكبار من الوالدين، المعلمين، وأشخاص آخرين ممن يتعاملون مباشرة مع المراهقين أن يقنعوا المراهق بصدق العادات الاجتماعية والتقاليد الدينية. طبعا لن يكون القارئ متفاجئا إذا ذكرت بأن مقاومة العادات والتقاليد هي إحدى مميزات المراهقين، حيث يبحثون من خلالها عن هويتهم الجديدة، يحاول المراهق "بشجاعة" أن يفحص ما هي الحدود المسموح قطعها وما هي الحدود التي ستعد بمثابة خط أحمر.
كثيراً ما نصادف في المدارس والعيادات الصحية النفسية أهالي يأتون في جعبتهم الكثير من الادعاءات على سلوك أبنائهم المراهقين. هذه الادعاءات ليس غريبة على من مر في جيل المراهقة، حيث يحاول الكبار من الوالدين، المعلمين، وأشخاص آخرين ممن يتعاملون مباشرة مع المراهقين أن يقنعوا المراهق بصدق العادات الاجتماعية والتقاليد الدينية. طبعا لن يكون القارئ متفاجئا إذا ذكرت بأن مقاومة العادات والتقاليد هي إحدى مميزات المراهقين، حيث يبحثون من خلالها عن هويتهم الجديدة، يحاول المراهق "بشجاعة" أن يفحص ما هي الحدود المسموح قطعها وما هي الحدود التي ستعد بمثابة خط أحمر.
فمن أكثر الأمثلة التي أستخدمها في عملي مع أهالي المراهقين هي: "الكذب ممنوع" إلا أن كل شخص يعرف أن جميع الناس يكذبون، لذا فسرعان ما يعرف المراهق أن الكذب غير مرغوب ولكنه موجود بكثرة، فيسمح الشخص لنفسه بالكذب بالرغم من وعيه التام بأن "الكذب ممنوع". وهكذا يبدأ المراهق في تمييز مدى صرامة حدود البيئة الخارجية. بما أن كل ما ذكر أعلاه هو معروف لكل من يتعامل مع المراهقين، فسأركز في هذه الورقة على المشاعر التي تثيرها المراهقة لدى كل من يكون على اتصال بالمراهقين، ومن خلال الوقوف عند هذه المشاعر سنحاول فهم سبب لجوء الأهل الى الوعظ الديني كطريقه للتوجيه والتأديب.
ليس سراً أن ما يميز فترة المراهقة هو انفجار في الهرمونات الجنسية، ذكرية كانت أم أنثوية. هذا التغير منوط بمشاعر وأحاسيس غريبة للمراهقين مما تثير لديهم مشاعر قلق شديدة، فيبدأ المراهق بالشعور برغبات جنسيه لا يستطيع التحكم بها ويشعر أنه على حافة التورط والخطأ، وكأن شيئاً شريراً (شيطان) يحاول أن يدفعه لأعمال لم يكن يفكر بها من قبل في طفولته. هذا (الشيطان) ما هو إلا أحاسيس جسدية متولدة نتيجة للتغيرات الجسدية الخارجية والداخلية لجسم المراهق. فكثيراً ما نرى هؤلاء المراهقين على سبيل المثال منشغلين في جلد أجسامهم عن طريق جرحه أو تلوينه أو حتى عرضه وكل هذا ما هو الا تعبير عن هذه "المعركة" الدائرة في أحشاء المراهقين في محاولة منهم لأخراجها.
هذا الشعور بالقلق النابع عن شعور مزمن بالقرب من الهاوية ينتقل بسرعة الى الأشخاص البالغين من حول هذا المراهق عن طريق قنوات لا واعيه لتسبب لديهم شعوراً بالقلق والخوف من سلوك مراهقيهم. فيشعر البالغ وكأنه مهدد من وجود المراهق ومن اندفاعيته حتى وإن كانت لم تخرج لحيز التنفيذ بعد. بهذه الطريقة يتولد جهاز متوتر، كل من أطرافه – المراهق والبالغ – يشعر بالقلق والتهديد. وهنا أقصد بالجهاز منظومة العلاقات الواعية واللاواعية بين الأعضاء (المراهق ومن يحيطه). ويرتكز هذا المفهوم على ثلاثة مركبات: ما يجري داخل المراهق، ما يجري داخل البالغ، وما يجري بينهما.
طبعا في هذا الجهاز متوقع من البالغ أن يكون العنصر المهدئ والمخفف للقلق، إلا أن الحال ليس كذلك لسوء الحظ، فالبالغ عادة يتوقع من المراهق أن يتنازل عن شهواته غير المسيطر عليها كي يزيل سبب التوتر في الجهاز وبالتالي يريح البالغ نفسه من التوتر الذي أصابه. في هذا الصراع حول من "المسؤول" عن هذا الجهاز المتوتر غير المريح لكل من المراهق والبالغ يكمن الدافع للكثير من سلوكيات كليهما. وهنا سأخص بالذكر محاولة البالغين الاستعانة بالدين لتهدئه الجهاز المتوتر
بداية أود التمييز بين التدين الداخلي والتدين الخارجي (الظاهري). المقصود بالتدين الداخلي هو عبارة عن الإيمان بفلسفة الدين واعتبار الدين إطاراً لفهم وتقييم كل مجريات الحياة، فالتدين الداخلي يعطي الإنسان مرونة في سلوكه وتقييمه للأحداث، لكن يقف من وراء هذه المرونة جسم فلسفي صلب ومتين. أما التدين الخارجي (الظاهري) فهو عبارة عن التمسك الظاهري بالدين خاصة في طقوس سلوكية دون ربط السلوك الإنساني بالفلسفة الواقفة من وراءه، وهؤلاء الناس هم أكثر تصلباً وتمسكاً بالسلوك مما يفقدهم روح الدين والمعنى الوجوديي الذي يفيضه الدين على الحياة.
إن التدين الخارجي هو أشبه بالوسواس القهري الموصوف في مجال اضطرابات الصحة النفسية، حيث يأتي السلوك التعويضي نتيجة لارتفاع في درجه القلق النابع من أفكار متسلطة على الإنسان، فالتدين الخارجي هو عبارة عن رد فعل تعويضي للقلق الوجداني الذي يشعر به الإنسان فيقوم بالتمسك بالسلوك الديني مثل الصلاة، الصوم، فصل الجنسين... الخ، دون أن يربط السلوك بالفلسفة الدينية من وراءه، فنرى الكثير من الناس يتقربون للدين في وقت الأزمات مثل المرض أو الوفاة ويبتعدون عنه مجدداً. هذا الاقتراب والابتعاد عن الدين لم ينبع من فهم عميق للدين بل نتيجة لقلق وتوتر نابعين من محفز غير مسيطر عليه، لذا يلجأ الإنسان الى السلوكيات الدينية كي يخفف عن نفسه شدة القلق والتوتر. ففي اللحظة التي يبعد فيها القلق عن هذا الشخص تقل حاجته للسلوكيات الدينية فيبتعد عنها، أو يزيد تمسكه بها خوفا من رجوع القلق مرة أخرى.
سأعود هنا للنظريات السلوكية كي أصف السلوكيات الدينية كسلوكيات امتناعية، والمقصود هنا أن الجهاز النفسي للإنسان يتعلم الامتناع عن طريق الحفاظ على الطقوس، بهذا لا تكون للإنسان الجرأة للابتعاد عن السلوكيات خوفاً من رجوع القلق، أي أنه سيشعر بالقلق هذه المرة لمجرد ابتعاده عن السلوك الديني بغض النظر عن وجود المحفز المقلق أو لا. بمصطلحات النظرية السلوكية هنالك شرطية خوف امتناعية. مما سبق نستنتج أن التدين الخارجي هو ذريعة لتفادي القلق، هذه الأداة سيتم استعمالها بصوره مبالغه في أوضاع لها علاقة بالأخلاق والخطيئة. وهذا تماما سبب القلق المتراكم في جهاز العلاقات بين المراهق والبالغ حيث يكون التماحك حول العادات الاجتماعية التي ترمز للأخلاق والتقاليد الدينية المرتبطة بالخطيئة، إذا سيلجأ البالغ الى الدين كي يهدأ من قلقه بحجة أنه يحاول من تخفيف قلق المراهق.
وإذا دققنا في الحوار الدائر بين المراهق والبالغ فهو عادة مليء بالإملاءات وينقصه الإقناع. بكلمات أخرى يلجأ البالغ الى تجنيد التدين الخارجي لضبط المراهق بدلا من غرس التدين الداخلي الذي سيساعد المراهق في بناء هويته الذاتية. ومن المهم الإشارة إليه أن كل ما قيل عن التدين هو صحيح أيضا بالنسبة لأي أيديولوجية أخرى يتمسك بها الناس كي يفهموا ويحللوا مجريات الحياة من حولهم.
بكلمات أخرى، إرغام المراهقين بالدين دون إقناعهم به هي عملية كبت للقلق عند البالغ أولا ثم عند المراهق ثانياً. فهذا الكبت لن يمكن المراهق من بناء آلياته الخاصة في التعامل مع القلق والتوتر، مما سيجعله أكثر عرضة للانهيار والاستسلام في مواقف ضاغطة في حياته كبالغ، حيث ستكون نتائج هذا الانهيار أكثر أذى لعائلته عندما يكون رب لعائلة. إذا ما العمل؟ وكيف يستطيع البالغ التعامل مع التوتر النابع من مراهقة ذويه خاصة وأن أسلوبه في التعامل مع القلق والتوتر (اللجوء للتدين الخارجي) لم ينجح؟
هنا سأستعين بنظريات التحليل النفسي واخص بالذكر Object relation theories. تدعي هذه النظرية أن الطفل وخاصة في سنواته الأولى عاجز عن تلبية حاجاته ولذا فهو بحاجه لأمه. كلما زاد عجزه زاد شعوره باللاحول وزادت كميه القلق لديه، هذا الطفل الذي لم يكتمل مبنى الجهاز النفسي لديه بعد لا يستطيع التعامل مع هذه الكميات الكبيرة من القلق لذا يبثها خارجا الى أمه بمسارات واعيه ولاواعيه مثل البكاء، فتستقبل الأم هذه المؤشرات للقلق فتقلق هي أيضا. لكن هذه المرة للام قدره أكثر نضجاً في التعامل مع القلق، لذا تأخذ قلق رضيعها تعالجه وترجع القلق للطفل أكثر قابلية للتحمل، هكذا ينجح الطفل في التعامل مع القلق بمساعدة أمه التي تقوم بعملية هضم القلق وإرجاعه إليه أكثر قابليه لأن يتحمله. ما ذكر هنا هو التطور الطبيعي للجهاز النفسي لدى الطفل العاجز عن تلبيه حاجته وكيفية تعامله مع شعوره باللاحول. أما الوجه الأكثر سلبية فهو عندما تقوم الأم التي استقبلت من ابنها قلقه بإرجاعه إليه محملا بقلقها هي دون أن تهضم قلقه، في هذه الحالة فعلى الطفل العاجز أن يتعامل مع قلقه ومع رد فعل أمه القلق أيضا، هكذا يصل الطفل إلى شعور بان لا شيء سيخفف عنه قلقه ويبنى جهازه النفسي تحت هذه الفرضية.
كي أوضح ما هو المقصود في هذه النظرية التي تبدو معقدة سأعرض المثال التالي: طفل في الثالثة من العمر يسمع صوت إطلاق نار، بشكل طبيعي سيشعر هذا الطفل بالخوف فيبدأ بالبكاء، هذا البكاء سيزعج الأم طبعا، ستحاول الأم إسكات ابنها. إذا قالت له "أنا معك لا حاجه للخوف يا حبيبي" فأنها استطاعت أن ترجع هذا الخوف لطفلها بشكل اقل تهديداً وهكذا سيستطيع الهدوء بعد لحظات، أما إذا قالت له بنبره حادة "اسكت لا تبكي" فهنا حاولت الأم معالجة خوفها هي بشكل قاسي عن طريق إسقاطه على ابنها الخائف، ربما سيسكت الطفل عن البكاء إلا أنه لازال يشعر بالذعر ولكنه كبته كي يهدئ أمه أو خوفا منها. في الحالة الثانية فشلت الأم في التخفيف عن ابنها وذلك بسب عدم قدرتها على التعامل مع خوفها هي أولاً ثم عدم قدرتها على هضم خوف ابنها وإرجاعه له بصورة يستطيع تحملها.
هذا المثال هو شبيه بما يحدث بين المراهق والبالغ مع بداية فترة هيجان المراهقة. المحفز المثير للقلق والخوف هو الشعور الداخلي الذي يشعره المراهق، إذ يشعر بأنه على حافة الهاوية، هذا الشعور ينتقل للبالغ أيضا وبأنه يتعامل مع مراهق خطر ومؤذي للبيئة (كائن غير مرض). بهذا على البالغ أن يعي الشعور المنقول إليه، أن يحاول هضمه، ثم إرجاعه للمراهق بصورة أكثر فهماً وقابل للتحمل. أما إذا كان البالغ منشغلاً بنفسه وبراحته، سيكون رد فعله مشابه للأم التي أسكتت ابنها الخائف، فيطلب من المراهق أن يكف عن مراهقته غير المسيطر عليها. من خلال هذه العملية تصبح العلاقة بين المراهق والبالغ غير مريحة لكليهما.
للتلخيص سأركز على دور اللجوء للدين في التعامل مع المراهقة. كما ذكرنا سابقا أن وعظ الدين بتفاصيله الجافة بدلا من الدخول الى فلسفته هو عبارة عن آلية دفاعيه يتساعد بها الواعظ كي يخفف من قلقه فيرى بالطقوس الدينية سلوكيات تعويضية تخفف من حدة القلق. اختيار الطقوس الدينية بالذات هو أكثر قابلية للمواضيع التي تخص العادات والتقاليد والتي تخص العيب والخطيئة. بما أن الدافع الجنسي عند المراهقين هو منبع القلق عند المراهق والبالغ الذي تعامل معه، وبما أن الجنس مرتبط بشكل مباشر مع الشعور بالخطيئة والنجاسة فأن الوعظ الديني سيكون أكثر آليات الدفاع المتوفرة والمقبولة اجتماعيا، إلا أن للأسف هذا الوعظ سيريح البالغ من جهة وسيعمق الشعور بالذنب عند المراهق من جهة أخرى. هكذا سيكون المراهق أمام خيارين صعبين: إما الانكسار وإتباع المسلمات الاجتماعية دون أن يمر بعمليه تذويت صحية، وإما أن يشد مقاومته لهذه المسلمات لأنها لم تتفهم مأزقه وذنبته به. هنا يكمن دور البالغ في الوساطة المتفهمة بين المجتمع والمراهق وعليه أن يفعل ذلك عن طريق عدم التفاجؤ من المراهق بل تقبله ومساعدته على تخفيف شعوره بالقلق حول ما يحدث في أحشاءه من تغيرات ومن اشتداد الغرائز الجنسية.