تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الحاجز الأمني وتأثيراته النفسية

المصدر
المركز الفلسطيني للإرشاد
الناشر
روني سرور
هناك جانب غير مرئي يمارسه جنود الاحتلال في شكل مقصود، بحق السكان الفلسطينيين يؤثر عل وضعهم النفسي

منذ فترة ليست قصيرة، فرض الجيش الإسرائيلي حصاراً عسكرياً محكماً على المدن والبلدات الفلسطينية، للحد من تواصلها الجغرافي والديموغرافي مع باقي المناطق الفلسطينية، وخصوصاً القدس الشرقية. وقد أثّر هذا الحصار تأثيراً مباشراً في المواطنين الفلسطينيين، ولا سيما أولئك الذين يقطنون في مناطق السلطة الفلسطينية، وكان وقعه شديداً على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وقد كتب الشيء الكثير عن انعكاسات هذا الحصار على السكان الفلسطينيين، كونها الهم الرئيس الملموس، الذي يشغل بال الشارع الفلسطيني. أما تأثيرات الحصار النفسية والاجتماعية على الفرد والعائلة الفلسطينيين، فلا تقل فداحة عن الجوانب السياسية والاقتصادية، رغم أنها غير مرئية لنا، وغير مدركين لخطورتها ، ووضع الضفة الغربية وقطاع غزة اليوم يشبه سجناً كبيراً مكتظاً بالمعتقلين، يقف في فتحاته حراس مدججون بالسلاح لإحكام قبضتهم على نزلائه، بأوامر من قادتهم. وإذا ما أردنا أن نطلق اسماً على هذا السجن، فأول ما يتبادر إلى ذهننا عبارة "جيتو". ومعروف أن أكثر من كتب ووصف الحياة في "الجيتو" وتأثيره على نفسية الفرد هم اليهود في مراحل حياتهم المختلفة.

والى جانب الحصار العسكري والنفسي والاقتصادي المفروض على المواطنين الفلسطينيين، وظروف الجوع والفقر، هناك جانب غير مرئي يمارسه جنود الاحتلال في شكل مقصود، بحق السكان، هو ممارسة الإذلال بشتى صوره. فالشخص الذي يسعى للبحث عن لقمة الخبز ليدفع عن نفسه وعائلته غائلة الجوع، ولا هم له إلا تأمين حاجاته الأساسية، ويلقى هكذا معاملة مذلة، يتحول من إنسان سويّ يفكر في تحسين وضعه ومكانته في عينه وعيون الآخرين، إلى إنسان أقصى طموح له هو البقاء على قيد الحياة. وبمعنى آخر تصبح ردود فعله فطرية غير متوازنة، لا مكان للعقل فيها.

وعندما يتحول الإنسان الفلسطيني إلى شخص محدود القدرات يسهل على الجندي الإسرائيلي والمواطن الغربي أن يرى فيه إنسانا "منحطا" سلس القياد يمكن ضربه وركله بسهولة، وكأن هذا التصرف حق مشروع ومكتسب، ولسان حالهما يقول: "انهم ليسو بشراً متطورين مثلنا، بل محدودي القدرات، ويعيشون على هامش الحياة الإنسانية بلا حضارة، لذا فان اضطهادهم مشروع". وأكثر ما يخيف في عملية "التحقير" هذه أن يحقّر الإنسان نفسه، ويرى فيه أخيه الفلسطيني إنسانا متخلفاً، ثم يأخذ بالتنكر لشعبه "المتخلف".

لقد بدأت مظاهر التعب النفسي والجسدي تظهر بوضوح، في الآونة الأخيرة، على وجوه المواطنين الفلسطينيين، لأن معظم جهودهم تهدد في الصراع من الأجل البقاء. فمكانة الجامعات والمدارس آخذة في التقهقر، وإغلاقهما لم يعد حدثاً يثير الناس، واضمحل اهتمام الجمهور بالفن، وأصبح البحث عمن عمل، مهما كان، لتوفير لقمة الخبز، هو غاية الكثيرين وشغلهم الشاغل.

إن صرف اهتمام الناس عن كل ما يخص عقلهم ونفسيتهم، وتركيزه في كيفية تأمين طعامهم وأمنهم، يقصد به تجهيلهم، والحد من تطورهم الاقتصادي والاجتماعي، وإرجاع الفلسطينيين عقدين أو أكثر إلى الوراء، ليسهل على سلطات الاحتلال إحكام الهيمنة النفسية على الشعب بأكمله فترة طويلة. وفي هذه الحالة، وفي حال هدأت الأوضاع الأمنية في الأراضي المحتلة، يجد الفلسطينيون أنفسهم أدنى تطوراً بكثير، من حيث مستوى المعيشة والتطور التكنولوجي، عن نظرائهم الإسرائيليين، وبفارق سنوات عدة، الأمر الذي يولد لدينا شعوراً أن الإسرائيلي أكثر تقدما ًمنا، ونرى فيه مثلاً أعلى علينا الاقتداء به والانتماء إلى الغرب الذي ينتمي إليه. وهكذا يضمن الإسرائيليون هيمنة نفسية طويلة الأمد على الشعب الفلسطيني، وربما الشعب العربي، وقد تستمر بعد انتهاء الحرب الدائرة بيننا.

وحتى بعد نهاية هذه الحرب، فان فكاكنا من ما يسمى بالحرب النفسية، سيكون ضعيفاً جداً.. بتأثيرها سيرى معظم شعبنا في المواطن الإسرائيلي مثال التطور القريب منه جغرافياً، وفي الجندي الإسرائيلي مثال محقّق الأمن الذي طالما تاق إليه. فها نحن اليوم نرى أولادنا في الصفوف الابتدائية يحلمون في أن يصبحوا جنوداً أو رجال شرطة. وهذا الحلم، ليس بمثابة فقدان هوية، فحسب، وانما هو حاجة موضوعية تحقق لهم الشعور بالأمن. فالطفل الذي يتوق لحمل السلاح، لا يحاكي القوي، فقط، بل يعتبره مثله الأعلى. وبعبارة أخرى ليس كل الأطفال، الذين يحلمون بأن يصبحوا جنوداً، يريدون أن يكونوا محاربين إسرائيليين بالفعل ليقتلوا الفلسطينيين، بل إن قسماً كبيراً منهم يريد أن يحظى بالقوة التي يفتقد إليها، وينعم بها الجندي ذو البزة الكاكية.

إن انشغالنا بتوفير قوتنا، وافتقادنا للأمن، يجعل هرم "ماسلو"* بالنسبة لنا شيئاً مستحيل المنال، لا حول ولا قوة لنا لنرتقي درجاته. فإذا لم يتحقق للفرد الفلسطيني أمن دائم وطعام وفير، فان المسافة بينه وبين تحقيق ذاته ستكون شاسعة. وهذا النوع من الحياة، الذي يشبه الغيتو، لا

* هرم "ماسلو" نظرية في علم النفس الاجتماعي تتكلم عن الحاجات النفسية للإنسان، تبدأ بالحاجة الجسدية ثم الحاجة الأمنية، ثم الحاجة إلى الحب والأمان والانتماء وانتهاء بالحاجة إلى تحقيق الذات.

يحد من تطورنا النفسي، فحسب، بل يسلبنا قدراتنا النفسية والاجتماعية التي اكتسبناها في الماضي.. فكلنا نعرف أن الناس في حالة التوتر تقترب من بعضها بعضاً، وتتكتل المجتمعات

المختلفة في حالة الحرب، أما الوضع الفلسطيني القائم اليوم، فهو ليس حرباً عادية، من ناحية تأثيراتها النفسية، فبدل من أن نتكتل نتقوقع كل في صومعته بعيداً عن الآخرين.

وعلى ما يبدو فان حربنا، في أحد مظاهرها، هي حرب نفسية، وعليه بدأنا في اقتصاد وتوفير طاقتنا النفسية، وكل فرد يحاول أن يحفظ طاقته النفسية لنفسه، ليتغلب بها على مصاعب الوضع الأمني القائم، ويفضل أن يوفر تلك الطاقات التي يحتاجها للاتصال بالآخرين. وبكلمات بسيطة يمكن القول إن الإحباط وفقدان السيطرة على الحياة قد جعلانا محبطين، ولا نطيق التعامل مع بعضنا بعضاً. وهذا الإحباط الذي ألمّ بنا هو أكثر من توتر عادي، دفع الإنسان على مقاومته عن طريق الصداقة مع الآخرين، أما الإحباط الذي يواجه الشعب الفلسطيني، فهو إحباط يوفر الطاقات لمواجهة الطوارئ.

إن تحكم حرس الحدود الإسرائيليين لا يقتصر على تحركاتنا الجغرافية، فحسب، بل يشمل مفاهيمنا وأمننا النفسي. فالإنسان العادي، الذي يعيش في بيئة آمنة، يتطور لديه أمان نفسي بتسلل وتسلسل منطقيين. فعلى سبيل المثال يتوق الفرد العادي للاستيقاظ كل يوم صباحاً في ساعة محددة، ويقود سيارته، أو يستقل سيارة أجرة ليصل إلى عمله في وقت معين، ويعود إلى بيته بعد أن يفرغ من هذا العمل، ليرى أهل بيته وأصدقاءه. وهذا الشخص بإمكانه أن يفعل ما يشاء دون عراقيل أو صعوبات، لأنه يعيش في بيئة آمنة. أما الفرد الفلسطيني فيفتقد هذا الأمان، لأنه ليس بإمكانه الخروج من البيت صباحاً.. وإذا ما خرج، فيحتمل أن يفرض حظر التجول من قبل الاحتلال وهو في الطريق فيضطر للعودة أدراجه من حيث أتى. وربما يضطر أحد أفراد العائلة أن ينام خارج البيت، في حال فرض حظر التجول في شكل مفاجئ. وكل تصرف صغير (شراء الطعام، صرف شيك من البنك، مقابلة صديق.. الخ) لشخص عادي يعتبر أمراً مألوفاً، أما بالنسبة للفلسطيني فهي مهام تحتاج الكثير من التخطيط الجاد، الذي ربما لا ينجح، لأن تحكم الفرد الفلسطيني بظروفه وتصرفاته محدودة جداً.. هذا الوضع اللامعقول ليس وضعاً محبطاً، فحسب، بل يهدد مفاهيم الأمن الذاتي والبيئي، ومن ضمنه عدم الثقة بالآخرين، لأنهم محبطون يفضل الابتعاد عنهم، إلا في الأوقات الضرورية جداً.

وفي مثل هذه الأجواء من عدم الأمان والافتقاد إلى الثقة بالآخرين، لا يمكننا تحديد مشاعرنا، لأنها غير واضحة، ونحول غضبنا في اتجاهات غير صحيحة.. فغضبنا من الجندي الإسرائيلي، أو استياؤنا من الوضع المحبط، إلى جانب الشعور بعدم الثقة بالبيئة المحيطة بنا، تجعلنا شكاكين تجاه الآخرين، ونتهم الأبرياء بأنهم السبب بمأساتنا. وعدا ذلك نرى العنف بيننا وبين أنفسنا قد ارتفع درجات: الأب يضرب ابنه، والزوج يضرب زوجته، والناس في الشارع تتعامل مع بعضها بخشونة، ونرى سائقي سيارات الأجرة يتشاجرون على راكب أو اثنين، وأصحاب البسطات يتنازعون على زبون هنا وزبون هناك.. لقد ضاقت أنفسنا بنا، والرزق شحّ والتقاتل على لقمة العيش أصبح شرعياً، حتى لو كان الخصم جاراً أو زميلاً.

ظل هكذا وضع من عدم الأمان، الجسدي والنفسي، يبحث الكثير من المواطنين عن الأمن بطرق شتى.. فمنهم من غيروا أمكنة سكناهم إلى منطقة القدس، وحاول آخرون الحصول على تصريح عمل عن طريق الاستجداء.. ونتيجة لكل ذلك أدخلنا الاحتلال الإسرائيلي في صراع مع أنفسنا، فمن جهة نريد الحفاظ على لقمة عيش عائلاتنا، ومن جهة أخرى نريد الحفاظ على كرامتنا، من دون إذلال. وهناك فئة منّا ضاق بها الحال إلى حد كبير، دفعها إلى أن تذّل نفسها من أجل أولادها. في حين لجأت فئة أخرى إلى نقل أمكنة سكناها إلى منطقة القدس لينعموا بامتيازات لا يحصل عليها الآخرون. وهكذا أدخل الاحتلال كل شخص منا في صراع مع الآخر، وقسّمنا إلى فئات تغار وتحقد على فئات اجتماعية أخرى. فجزء كبير من سكان الضفة الغربية بقي يحمل "هوية ضفة" في حين حصل سكان منطقة القدس على "هوية قدس" مع ما يعنيه هذا من امتيازات حرمت منه أغلبية السكان الفلسطينيين في المدن والبلدات الأخرى. وقد استغلت سلطات الاحتلال هذا الأمر أيما استغلال، وأصبحت هذه الامتيازات سلاحاً في يدها تهدد به حملة "هوية قدس" الذي يساعدون أشقاءهم من حملة "هوية ضفة". ونتيجة لذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يخشى سائقو "فوردات" القدس من نقل ركاب الضفة الغربية، خشية من فقدان ما حصلوا عليه من امتيازات. أما "عرب الداخل" فهم أرستقراطيو الشعب الفلسطيني، في نظر الكثيرين، لما يتمتعون به من امتيازات أثارت الحقد عليهم، وصل حد الاتهام بالخيانة.

وقد أدى الفقر والجوع وعدم الشعور بالأمن والأمان إلى تقسيم المجتمع الفلسطيني إلى طبقات، ليس بالمفهوم الاقتصادي والاجتماعي للكلمة، أو بمعنى الوجاهة والأغنى، وانما بما تحصل عليه من أمن جسدي وأمان نفسي واقتصادي تميز طبقة عن أخرى.

وفي حالة الصراع المتواصل على كسب القوت وتوفير الأمن، لحاجة أساسية وموضوعية للبقاء، فان اهتماماتنا بكل ما يتعلق بالفكر والنفس والروح يصبح عملاً روتينياً يوظف للتخفيف من الضغوطات. ويدخل ضمن الروحانيات سالفة الذكر الموت. وقد لوحظ في الفترة الأخيرة أن اهتمامنا بالموت والموتى انخفض عما كان عليه في السابق، وتراجعت ثقافة الشهادة، وأضحت دموعنا وأحزاننا على الضحايا مجرد مجاملة سريعة تقدم لذويها في المناسبات الحزينة.. وهذا البرود في المشاعر ربما يعود إلى كثرة سقوط الشهداء، والزيادة في عدد الجرحى، الذين أصبحت أخبارهما أمراً عادياً في حياتنا اليومية. فكبت مشاعرنا تجاه هذه المآسي هو بمثابة الدفاع عن أنفسنا لئلا نتألم أكثر من الألم الذي في دواخلنا. إن تجاهل الموت والمرور عليه مر الكرام، دون السماح لأنفسنا بالتأثر، ليس مرده الهرب من الحزن والإحباط العارمين، فحسب، وانما هو نتيجة لاستسلامنا وقبولنا لقيمة الحياة المتدنية لدى الإنسان الفلسطيني. فإذا كانت حياتنا مستلبة بهذا الشكل، فان الحفاظ عليها لم يعد مقدسا في نظرنا بعد. ولكن المثير في الأمر أننا نصارع من أجل البقاء، على الرغم من احتقارنا للحياة، ونظرتنا الروتينية للموت، تفتقد إلى مشاعر حزن كبيرة. وهناك سبب آخر لتجاهلنا الموت هو رفضنا الاعتراف بأنه قريب منا، وبأنه سيحصد أرواحاً عديدة، لأن الاعتراف بهذا الأمر يعني القبول بفكرة أن الموت باستطاعته هزيمتنا، ويفسد صراعنا من أجل الحياة والحفاظ على أرواحنا.

وهناك توجه غريب للموت في مجتمعنا، الذي يقاسي أفراده الأمرين من ظلم الاحتلال.. فالفدائيون المنتحرون ، الذين لم يستطيعوا التعبير عن الظلم، الذي يحيق بهم، بألسنتهم وأيديهم، ولم ينجحوا بالثورة على ظالميهم، اختاروا أن تتكلم أجسادهم بدلاً منهم. فإذا كان هدف الاستمرار في الحياة هو التقليل من قيمة النفس، فربما يعطي إنهاء الحياة، بشكل من الأشكال، للنفس قيمة لم تنجح الحياة في أن تكسبها إياها.

فالشخص المستشهد لا يفعل ذلك لأجل الحياة الأبدية، ولا لأجل وطنه، فحسب، بل لينقذ نفسه أيضاً.. فصراعه من أجل البقاء هو في أن يموت لأجل هدف يسعى إليه ويريده.. هذا الواقع الفلسطيني المجنون جعل من الحياة والموت مرادفين بدلا من أن يكونا مضادين.. ومعروف أن الاكتئاب المرضي في الأوضاع الطبيعية يدفع البعض للتخلص من حياتهم عن طريق الانتحار، أما في حالة الإحباط الذي سببه التحقير، بسبب عامل خارجي، يصبح التفكير في الانتحار حلاً أخيراً يلجأ إليه الإنسان لإنقاذ نفسه من الاكتئاب.

وتأسيساً على ما تقدم يمكن القول إن هذه الحرب النازفة، التي تشنها سلطات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، هي نفسية، بقدر ما هي جسدية أو سياسية أو اقتصادية. وربما تكون المركبات النفسية لهذه الحرب نتيجة عشوائية للوضع السياسي، أو هي هدف بحد ذاتها، خطط الإسرائيليون لها بدهاء، خصوصاً إذا عرفنا أن علم النفس هو سلاح اليهود الأقوى وميدانهم المفضل. وما يحز في النفس أن الفلسطينيين، قيادة وشعباً، يجهلون أو يتجاهلون هذه المركبات النفسية، ولا يحاولون أخذها بعين الاعتبار، في عملية التخطيط للمقاومة. وإذا ما تجاهلنا، نحن الفلسطينيين، حاجاتنا النفسية، فسيسهل على الإسرائيليين أن يتجاهلونا أكثر فأكثر، لأن تجاهل مشاعرنا يعني التنازل عن إنسانيتنا.

plm-ltd.co.uk www.advente.fr/nike-tn-pas-cher/ Air Max Pas Cher Air Max cambridge105 air max seminaire osteopathie Cheap Air Max 90 Sale http://www.snvonline.co.uk/