تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الدور الوطني والاجتماعي لمؤسسات العمل الاهلي في فلسطين

المصدر
المركز الفلسطيني للإرشاد
الناشر
رنا النشاشيبي ويحيى حجازي
السنة
2006
هذه الورقة تعرض تاريخ تطور المؤسسات الأهلية في فلسطين وبلورة دورها في الحقب المختلفة

مقدمة

يعتبر قطاع العمل الاهلي في فلسطين من اهم القطاعات الفاعلة في المجتمع المدني الفلسطيني. حيث تلعب مؤسسات العمل الأهلي دور حيوي وفعال في إطار تنشيط الحراك الديموقراطي داخل المجتمع، فهي أهم قنوات المشاركة الشعبية، و هي البنية التحتية التي تؤسس لأن تكون الديموقراطية نظاما للحياة، وأسلوباً لتسيير المجتمع، (سرحان، 2005). 

الا ان هناك جدل واسع حول تعريف دورها ،و  نطاق عملها ، واهميتها، والمهام المنوطة بها ، ويعود أصل  هذا الجدل إلى أسباب خاصة بتعريف مفهوم العمل الاهلي والمجتمع المدني في السياق التاريخي والفلسفي لتطور المفهوم والعمل في المجتمع العربي، وإلى خصوصية الوضع الفلسطيني الذي ظهر به العمل الاهلي ليسبق القطاع الحكومي الوطني،  اذ قام ولسنوات عديدة بتوفير واجهة للعمل الوطني ولتقديم الخدمات الاساسية والهامة كجزء من المقاومة والصمود.

واساس هذا  الجدل من حيث  أستقلالية هذا القطاع وتعبيره عن المصلحة الوطنية ودوره في التغيير الاجتماعي مقابل كونه قناة للتدخل الاجنبي وخصوصا البنك الدولي.    وبما ان موضوع هذه الورقة هو الدور الوطني والاجتماعي لمؤسسات العمل الاهلي في فلسطين،  فانها وان لن تتسع لتشمل هذا النقاش الفلسفي الواسع، الا ان تقييم دور العمل الاهلي ومحاولة تحليل اسباب النجاح او الاخفاق بالتأثير الوطني والاجتماعي لا يمكن ان يكون دون التطرق ولو باختصار لهذا الجدل.  ولكن الاستنتاج الذي يصل به هذا التحليل ان العمل الاهلي مكون اساسي في المجتمع المدني الفلسطيني الذي لم يرنو الى دوره المنشود في الارتقاء الى مفاهيم وقيم وطنية واجتماعية تقدمية، بل هناك نقوص في دور وتأثير مؤسسات العمل الاهلي على الاجندة الوطنية والاجتماعية . ويرجع هذا لإسباب ذاتية وموضوعية سيتم التطرق اليها في مجمل الورقة، وان كان من اهمها ما يتعلق بغياب الرؤيا المحددة وعدم الالتزام بالاهداف التي تشكلت من أجلها في بعض الأحيان، تكنقرطة المؤسسات ، التمويل الخارجي وعدم الجرأة في تناول القضايا الاجتماعية الجدلية ان كانت تتعارض احيانا مع الثقافة السائدة . ومن الاهمية بمكان التنبه كي لا يتحول العمل الاهلي في فلسطين الى  مثيله في الدول العربية المجاورة.

سرد تاريخي

لعبت المؤسسات الأهلية في فلسطين دوراً مركزياً في الحفاظ على النسيج الوطني الفلسطيني من التفكك قبل وخلال وبعد بدء العمل الوطني التحرري، فكانت له الحاضنة الأساسية منذ العام 1918 من خلال الجمعيات المسيحية الاسلامية في فلسطين فكانت الرافد التاريخي المركزي للمقاومة، الذي ساعد على الحفاظ على دافع مناهضة الاحتلال الاسرائيلي لاحقاً (الشلالدة، 2002).

 كان العمل الأهلي في فلسطين نتاج واقع، وردة فعل طبيعية لتمخضات الاحتلال الاسرائيلي وتأثيراته المباشرة على الفرد الفلسطيني. اذ ان واقع الاحتلال وغياب "سلطة وطنية" قادرة على أخذ زمام الحكم في فلسطين خلقا واقعا صعبا ، فكان لا بد من الاستجابة السريعة لاحتياجات اللاجئين في فلسطين وخارجها خلال سنوات الشتات، من خلال تأسيس جمعيات خيرية وأخرى تعنى بتقديم الإغاثة بأشكالها المختلفة من توفير الاسعافات اللازمة لجرحى الحرب، ودور للأيتام وجمعيات التأهيل وما الى ذلك.

لم يكن الوضع العام بعد سنوات الشتات الا الأصعب على الفرد الفلسطيني وبالتالي على المؤسسات الأهلية، فدمار البنى التحتية الاقتصادية والعمرانية الفلسطينية على يد الآلة الاسرائيلية وتدفق أعداد من النازحين والمهجرين الى الضفة الغربية، أدى الى ارتفاع وتيرة النضال الفلسطيني، فكانت مساهمة المؤسسات الأهلية في دعم هذا النضال من خلال توفير الخدمات الصحية والتعليمية والزراعية والاجتماعية، وخدمات أخرى تعنى بأهالي السجناء والشهداء. فمن 77 مؤسسة أهلية في العام 1966، تضاعف العدد 3 مرات تقريباً ليصل الى 210 مؤسسة أهلية في العام 1987 في الضفة الغربية وحدها (الحوراني، سنة غير متوفرة).

كانت الانتفاضة الفلسطينية محكاً للمؤسسات الأهلية فقد اثبتت خلال تلك الفترة أن تقديمها للخدمات ما هي الا استراتيجية فقط، تتمكن من خلالها رعاية المقاومة والالتزام بأجندة التحرر الوطني. عبد الهادي (2004 ) الذي يضيف بأن فترة الانتفاضة الفلسطينية أفرزت نمطاً جديداً بدء حينها واستمر حتى اليوم وأثر في دور المؤسسات الأهلية وطريقة عملها، فقد بدأ التفكير بالانتقال من توفير خدمات الاغاثة من أجل الصمود الى تطوير مجتمع فلسطيني مستقل ومنتج، وكأنها توقعت نهاية مرحلة سيكون للسلطة الفلسطينية دور قريب فيها لتأخذ على عاتقها مهام الاغاثة.

بعد مجيء السلطة الفلسطينية كان لا بد للمؤسسات الأهلية الانتقال من موقع المجابهة السياسية الى موقع المجابهة المهنية، فبدأت المؤسسات القديمة منها والمستحدثة بعد أوسلو في التفكير والدخول في مرحلة البناء وتوفير خدمات نوعية تتسم بدرجة عالية من المهنية، فتضاعفت أعداد المؤسسات الأهلية الى 480 مؤسسة أهلية في العام 1999 (مكتب المنسق الخاص للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية، 1999). عملت المؤسسات الفلسطينية في هذه الفترة من خلال اللجان والائتلافات المختلفة من خلال  تنسيق البناء مع المؤسسات الحكومية، وكان لها مساهمات جمة في هذا المجال، فقد ساعدت في صياغة القوانين وتأهيل العاملين في المؤسسات الحكومية وتقديم خدمات مباشرة  لفئات لم يكن بمقدور الوزارات العمل معها وتقديم الخدمات لها. 

كأي جسم دينامي كان لا بد للمؤسسات الأهلية أن تنتقل من الإغاثة الى البناء،  لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة  ، فما زالت المؤسسات تلعب دور المغيث كون السبب الذي خلق مثل هذا الدور ما زال قائماً وهو الاحتلال الاسرائيلي. بالرغم من الاحتلال والقيود ومحاولة تحطيم الفرد الفلسطيني ومؤسساته،فقد أثبتت المؤسسات الأهلية الفلسطينية دورها الريادي وتميزها في العمل الأهلي مقارنة بأخواتها في الأقطار العربية الأخرى التي ما زالت تعاني حتى اليوم من الوصول الى الفئات المستهدفة وتجنيدها من ناحية وتأثرها بالأنظمة المقيدة للحريات في تلك الدول (الباز، 1989: ورقة عمل مقدمة في التنظيمات الأهلية العربية في مؤتمر القاهرة، 31/10/1989).

لأدوار المركزية التي لعبتها وتلعبها المؤسسات الأهلية في فلسطين و ابعادها الوطنية والاجتماعية

      ما يُعرف عن مؤسسات العمل الأهلي أنها لا تُمارس نشاطاً سياسياً مباشراً، وأن أعضائها لا يسعون للوصول إلى السلطة (سرحان ، 2005).  فهي تنمي روح المواطنة وتعمل على توعية وتثقيف الفرد والمجتمع بالحقوق المدنية والسياسية وتعمل على حماية مصالحه من استبداد او تسلط الجهة الحاكمة او المسيطرة.  الا ان الوضع السياسي العالمي، والاقليمي و المحلي قد فرض الحاحية اجندة المقاومة والعمل الوطني باشكاله المتعددة على عمل مؤسسات  العمل الاهلي في فلسطين. كما ان العاملين والقائمين على هذه المؤسسات هم اصلا ناشطين من احزاب سياسية مختلفة، وعليه فان العلاقة الوثيقة ما بين العمل الاهلي والعمل الحزبي في فلسطين تاريخيا كانت قائمة. 

في ورقة قام الشلالدة بعرضها في مؤتمر البناء الديمقراطي المقاوم في رام الله (26/11/2002) صنف المؤسسات الأهلية الفلسطينية الى سبعة حسب طبيعة عملها:

  1. منظمات عاملة في مجال زيادة وعي المواطن والدفاع عن حقوقه من خلال تشكيل قوى شعبية ضاغطة على متخذ القرار.
  2. منظمات عاملة في مجال الرفاه الاجتماعي وهي الأكثر انتشاراً ونشاطاً وتنظيماً.
  3. منظمات عاملة في مجال رعاية المصالح المهنية للمنتسبين إليها.
  4. منظمات أهلية عاملة في مجال المصالح الاقتصادية لأعضائها.
  5. منظمات أهلية عاملة في مجال التعاون.
  6. منظمات أهلية عاملة في المجال السياسي.
منظمات أهلية عاملة  متخصصة في مجال إحياء الروح المدنية وتعميق مفهوم الديمقراطية"

المؤسسات الأهلية الفلسطينية بطبيعاتها المختلفة أتت لتحقق رؤية فلسطينية وطنية، يمكن تحديدها بالتالي كما اوردها عبد الهادي  والتي هي الاسهام الجاد في مقاومة الاحتلال وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة، التركيز على الديمقراطية كنهج لهذه الدولة، والمساهمة في بلورة المفاهيم والنماذج التي تدفع المجتمع في اتجاه تنمية حقيقية (عبد الهادي، 2004).  وقد كان واضحا ان التحرك وتبني مواقف جريئة وبرامج حقيقية على كافة الاصعدة يتطلب الحوار والنقاش السياسي بسبب تنوع  التوجهات الفكرية. 

العمل الاهلي ما بعد السلطة وعلاقة التكامل والتنافس بين المؤسسات الاهلية والسلطة الفلسطينية

تراجع الدور السياسي للمنظمات الاهلية بعد قيام السلطة الوطنية الا أنها ساهمت في العديد من الأنشطة والفعاليات الوطنية وخاصة في مجال مواجهة الاستيطان ومصادرة الأراضي وفضح ممارسات الاحتلال وانتهاكاته لحقوق الشعب الفلسطيني. في محاولة لتفسير أسباب تراجع الدور السياسي الوطني لهذه المنظمات وحسب الباحثة ريما حمامي أن المؤسسات الأهلية ما بعد اوسلو "اختلفت بنيوياً وأيديولوجياً عما كانت عليه في أوائل الثمانينيات، بعد أن شهدت تناقضات متنامية داخلها: التنمية الشعبية مقابل التعبئة السياسية، التسلسل الهرمي للتنظيم مقابل الطاقم المهني والمشاركة الاجتماعية، الأموال السياسية مقابل تلك الممنوحة بهدف دعم المجتمع" ، تحول الحركة الشعبية إلى مجتمع منظمات غير حكومية. تحول المنظمات الطوعية الشعبية إلى منظمات صفوة مستقلة ذاتياً، سياسياً وحرفياً. شروع المنظمات التابعة حزبياً في إيجاد هيئات إدارية تعج بالمستقلين والاستعانة بطواقم غير حزبية. وتعزي حمامي السبب الأساسي لهذا التحول إلى الاشتراط السياسي الذي تفرضه الدول المانحـة والمتمثل في التخطيط طويل المدى، والوضوح التام، والنشاطات المرتبطة بالتعليم أو تقديم الخدمات مقابل التعبئة السياسية، وتفضيل المشاريع ذات النتائج "القابلة للقياس"، (محيسن، تاريخ غير متوفر)  . وبهذا فقد تم مأسسة القطاع الاهلي واصبح يتجه اكثر فأكثر نحو اللاتسييس واخذ بالابتعاد عن جذوره في الاحزاب السياسية وفقد المرجعية الايدولوجية والانضباطية، وخسرت الاحزاب وخصوصا اليسارية قدرتها في الوصول للقاعدة الجماهيرية والتي كانت منخرطة في برامج المؤسسات الاهلية. 

لكي تستطيع المؤسسات الأهلية ويكون لاستراتيجياتها متسعاً للوجود ، كان لا بد من توفر  مقومات تحدد العلاقة بين تلك المؤسسات والمؤسسات الحكومية وأولها تحديد مفهوم التنمية وأولوياتها، إضافة الى ترسيخ الحكم السليم وسيادة القانون وتعزيز الشفافية. 

تشير الدراسات ان العلاقة ما بين القطاع الاهلي والحكومي تتمثل بشكلين:

 الشكل الأول العلاقة التنافسية، على الدور والمجال، وعلى تقديم الخدمات، وسببها الرئيسي الصراع على التمويل. فالمنظمات غير الحكومية شكلت قبل قيام السلطة المتلقي الأول للمساعدات، والمنح المالية العربية والدولية، والجهة الفاعلة في رسم الخطوط الأساسية لخطط التنمية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبعد قيام السلطة تقلص هذا الدور إلى مستويات دنيا، وأصبح تنظيم العلاقة وترسيمها متطلباً تنموياً ومدنياً.

الشكل الثاني علاقة شراكة وتنسيق، ذات طابع قطاعي، وغالبا ما تتم مع المنظمات ذات الإمكانيات الكبيرة، كلجان الإغاثة الزراعية والطبية .....الخ. وتنبع هذه العلاقة من تقدير كل طرف لأهمية دور الآخر، ولضرورة التنسيق والتعاون في بعض المجالات، وبعض الأنشطة. فالسلطة لا تستطيع تجاهل دور المنظمات غير الحكومية، وتاريخها، والإنجازات التي حققتها في التطور الاقتصادي والاجتماعي وعلاقاتها التاريخية مع الممولين، والمجتمع المحلي. كذلك الأمر بالنسبة للمنظمات غير الحكومية، والتي نظرت إلى متغير وجود السلطة كأساس في تقليص حجم الدعم والدور الذي يمكن أن تلعبه في التخطيط، والتنفيذ لمجمل البرامج التنموية. فالساحة لم تعد خالية من الوجود المؤسساتي للسلطة كما كان الأمر في ظل الاحتلال (المالكي وآخرون، 2001).

الشكل الثالث: علاقة استبدال، وهو ما قد يحدث حاليا وهو ان تقوم بعض المؤسسات باخذ مكان اجهزة السلطة والوزارات بتقديم خدمات اساسية وضرورية ، مع العلم بان شبكة المنظمات الاهلية ،ومنتدى العمل الاهلي، واتحاد الجمعيات الخيرية، والهيئة الوطنية للمؤسسات الاهلية اصدرت وبشكل سريع  بيان تحذر من قيام المؤسسات بذلك.    

العلاقة ما بين العمل الاهلي والمجتمع المدني

يقول الدكتور سعود المولي " ان كلمة الاهلي والاهلية لها معان مهمة في اللغة العربية مثل إلارتباط بالقاعدة العريضة من السكان وتعبيرها عن مبادرات صادرة عن تلك القاعدة من المجتمع وليس الدولة".  وهذا التعريف ينطبق على وضع ودور القطاع الاهلي في فلسطين ما قبل اوسلو، اذ ان والارتباط الوثيق مع الجماهير كان الاساس في قدرة هذا القطاع على التأثير الوطني والاجتماعي.

واما دراسة الدكتور مجدي المالكي فتعرف النشاط الاهلي على انه :" أية خدمة أو نشاط اجتماعي، أو اقتصادي، أو ثقافي، أو تنموي، أو غيره، يقدم طوعا، أو اختياريا، ومن شأنه تحسين مستوى المواطنين في المجتمع اجتماعيا، أو اقتصاديا، أو صحيا، أو مهنيا، أو ماديا، أو روحيا، أو فنيا، أو رياضيا، أو ثقافيا، أو تربويا" ( المالكي وآخرون، 2001)  .وقد يكون العمل الطوعي والانخراط الاختياري وليس النفعي في العمل الاجتماعي هو ما ميز النشاط الاهلي ولعقود، كما ان الايمان بقيم اساسية للمقاومة والتغيير الاجتماعي كان المحرك الرئيس للإلتفاف حول النشاط والعمل الاهلي، وهذا ما كانت توفره العلاقة مع الاحزاب وخصوصا اليسارية.  ومع انحسار تأثير الاحزاب اليسارية والايدولوجية الاجتماعية المرافقة اصبح هناك فراغ "فكري" او "ايديولوجي" محرك لنشاط القطاع الاهلي، باستثناء ما يتم اجتهاده من النخب المثقفة والقائمين على قيادة المؤسسات ، والذي وان كان مهما ولكنه لا يفي بالغرض.   وقد يكون تطور مفهوم المجتمع المدني في فلسطين طبيعيا ونابع من ارتقاء العلاقة مع "اجهزة السلطة\ دولة" الا انه غير مفهوم بالشكل الصحيح.  وان قامت النخب المثقفة في فلسطين بتقديم المفهوم الا ان عملية بلورته، تقنينه وموائمته للوضع الفلسطيني غير مكتمل ، وخصوصا وضوح الفكر السياسي الوطني المواكب، والعمل التنظيمي المتابع.  اذ ان المجتمع المدني بعيدا عن السياسة هو عملية اجهاض وكما يقول الدكتور عزمي بشارة ان " سيطرة المفهوم الجديد (المجتمع المدني) بعد اجهاض إلانتفاضة هو "عملية اجهاض سياسية، ‘ عملية لا تسييس" ودورها هو دور "العميل المزدوج الذي يعادي السياسة باسم الديمقراطية ثم يدير ظهره للديمقراطية باسم كونها معركة سياسية والواجب هو ليس خوضها وانما بناء المجتمع المدني"( بشارة ، 1996).  لذا لضمان الدور الوطني على النخب المثقفة الواعية قيادة المجتمع وتوجيهه بالشكل الصحيح.  فعندما يتطور المفهوم نتيجة التطور السياسي الاجتماعي العادي كما حصل في اوروبا ويولد اي قطاع كناتج عن هذا التطور يصبح جزءا لا يتجزا من التجربة.  بمعنى ان التطور السياسي الاقتصادي لنشوء مفهوم "الدولة الوطنية" Nation state   في اوروبا وبلورة التوجهات الفلسفية الليبرالية المرافقة مثل مفهوم المواطنة ، الديموقراطية والعقد الاجتماعي توجب تطوير مفهوم "المجتمع المدني" بهيئاته المختلفة من مؤسسات عمل اهلي وغيرها لتلعب دور الفاصل buffer  لحماية الشخص من تسلط الدولة (حلبي، 2004).  الا ان الفكر الماركسي وبعض المفكرين مثل غرامشي  حذر من ان المجتمع المدني ومؤسساته ما لم تتبنى ثقافة وايدولوجية لتشمل الاتحادات والنقابات والاحزاب العمالية قد يصبح "نوادي للمنتقاة" elite clubs يحمي مصالح الرجوازية.

ومع اختلاف الظروف في العالم العربي ، وعدم وجود ثورة صناعية او ثورة طبقية الا ان الاستعمار خلف مفهوم " الدولة الوطنية".  وحركات المقاومة ضد الاستعمار رافقها حركات فكرية في الوطن العربي تداولت وعرفت المفاهيم مثل التحرر، الديموقراطية ، المواطنة والمجتمع المدني بالاتجاه اما الديني او العلماني، او المهادن.  وعليه لا يوجد اتفاق بشكل عام في العالم العربي على ماهية وادوار المجتمع المدني وهيئاته مثل العمل الاهلي، الا ان الظروف المحيطة من استبداد السلطات الحاكمة، قصور الخدمات، غياب الديموقراطية وتفشي القهر والفساد استوجب وجود مؤسسات واطر تعمل على "حماية المواطن" وتنظيم العلاقة بين الفرد والدولة، فكانت المؤسسات الجماهيرية المشكلة من الاحزاب السياسية او النخب المثقفة في الوطن العربي.  والوضع الفلسطيني كان له خصوصية محددة الا وهي ان نشوء هذا القطاع وتطوره جاء بغياب "الدولة"، وان كان من احد اهدافه تمهيد الطريق لنشوء الدولة. 

 

اسباب القصور الذاتية والموضوعية

 في ظروف العمل الخاصة التي يعيشها قطاع المؤسسات الأهلية، و التي تتمثل في غياب الدولة و أجهزتها المختلفة، و في ظل الفوضى العامة التي سادت المجتمع الفلسطيني في السنوات الأخيرة ، و التي كشفت عن مواطن خلل و ضعف المؤسسات الفلسطينية بشكل عام فلابد  هنا من الإشارة إلى مجموعة من المعوقات التي تقف أمام العمل الأهلي الفلسطيني . 

*التمويل الخارجي واثره على الاجندة الوطنية وضعف المشاركة المجتمعية

في فلسطين كغيرها من الدول العربية احتاج هذا القطاع لحلفاء في مواجهته للإحتلال والاستبداد الفكري.  ولم يكن هناك غير المؤسسات الغربية التي تستطيع القيام بهذه المهمة.  فكانت القوى اليسارية، حركات التضامن، والكنائس هي الداعم الاساسي للعمل الاهلي في فلسطين وغيرها.

وفي الحقبة التاريخية التي لم يكن هناك تعارض ما بين الاجندة التحررية بالعالم وحركات التحرر والمقاومة في البلدان العربية وفلسطين لم يظهر جليا الخلاف الايدولوجي وانعكاساته الجماهيرية ، ولم يكن هناك ظهور لمحاور ونقاط خلاف اساسية في العمل الاهلي.  اما حاليا تحتل مسألة التمويل الأجنبي للمنظمات الأهلية الفلسطينية مساحة كبيرة من الخلاف والجدل، بين هذه المنظمات والسلطة الفلسطينية من جهة، وبينها وبين الأحزاب السياسية من جهة أخرى. ومع تغير الجهات الداعمة هناك هوة واسعة ما بين حاجة المجتمع المحلي والحركة الجماهيرية والتي من الضروري ان يعبر عنها العمل الاهلي وما بين الاجندة العالمية والمستفيدين منها من القائمين والعاملين في هذا القطاع.  ومع ان هناك العديد من المؤسسات الواعية لخطورة هذا المسار المهادن او المجاري للأجندة الدولية، الا ان مؤسسات العمل الاهلي وبسبب عدم تمكنها من ترسيخ مفهوم التقوية والتمكين عند الانسان الفلسطيني ليدافع عن اولوياته الوطنية والتنموية ، اصبحت مجال للإنتفاع عند الانسان الفلسطيني وليس مؤسسات قاعدية واسعة تؤثر وتتأثر بمسار العمل التنموي الاهلي في فلسطين.

فالانسان العادي يرى ان هذه المؤسسات تقوم على تجنيد والاموال العامة التي هي من حقه\ حقها وعليه فان اهمية الانتفاع تغلب احيانا على التاثير لتصويب مسار عمل هذه المؤسسات.   ساهمت المساعدات الدولية بتعزيز مبدأ المشاركة ولو بشكل محدود. ولكنها لم تعمل على دمج المفهوم في المشاريع التي تدعمها المستفيدون من المشاريع مشاركين في صياغة واتخاذ القرارات المتعلقة بمجتمعاتهم. بحيث يصبح والخاسر في هذه المعادلة الطرفين الفرد الفلسطيني و القطاع  الاهلي.

غياب التخطيط التنموي العام

أما فيما يتعلق بالرؤية المتعلقة ببناء نماذج تنموية حقيقية فلم  يكن الأمر يسيراً للمؤسسات الأهلية الانتقال إلى لعب دور تنموي، كون أن الاحتياجات الضرورية الملحة ما زالت قائمة، وبسبب وجود اختلاف بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية حول أولويات التنمية، والوعي التنموي خلال سنوات من الجدال بين المؤسسات المختلفة لم يتبلور حتى الآن (عبد الهادي، 2004). إضافة الى الاختلاف أيضاً بين المؤسسات الأهلية ذاتها حول مفهومها للتنمية المستدامة وطرق تحقيقها. يشكك الكثيرون في فعالية الدور التنموي الذي تلعبه المنظمات الأهلية، فثمة من يرى أنه لا يمكن تحقيق التنمية في ظل عدم استكمال السيادة الوطنية، وأن جل ما تقدمه هذه المنظمات ليس أكثر من مشاريع إغاثة. يعلل آخرون عدم قدرة هذه المنظمات على لعب دور تنموي حقيقي بسبب اعتمادها على التمويل الأجنبي وخضوعها لأجندته.

المؤسسات الاهلية بين ما هو عام وما هو خاص.

"ما هو خاص هو سياسي" قد تعتبر هذه عبارة بسيطة جدا ولكنها تجسد أهمية النقلة الواجب عملها من اجل انصاف اؤلئك الذين يتم استغلال الخصوصية لقمعهم واحجام دورهم وفاعليتهم (انلو ، 1989).  "وما هو سياسي هو خاص" اي ان السياسة العامة تصاغ لاهداف قد تكون خصوصية جدا.  وعندما تكون الحدود ما بين الدور العام والاهتمام الخاص غير واضحة وضبابية فان اولئك الذين هم في موقع القوة والمسؤولية يستخدمون مكانتهم ومواقعهم لخدمة اهدافهم الخاصة (برينن ،1995).

ان زيادة حجم ودور المنظمات الاهلية في فلسطين جاء وحسب د. عزمي بشارة "نتيجة لأزمة  الفصائل وأزمة العمل الوطني وعدم وضوح الفكر المستقبلي، حيث يوجد أزمة عزوف  للمثقفين عن العمل السياسي، وحيث لا يوجد  سياسة بدون عمل حزبي، وفي فترة أزمة العمل الحزبي بشكل خاص تزداد الحاجة إلى مثقفين، وهروب هؤلاء بما يسمى بمنظمات غير الحكومية وغيرها هو هروب مأزوم وخطير جداً، لأن عداء المثقفين للسياسة هو صديق الديكتاتوريات الأول" . 

تفشي العشائرية

 واعادة انتاج قيمها ينفي الانتماء الوطني من جهة و يعزز تقويض الدولة كمؤسسات ، ويجعلها طرف يحتمي بالعشائرية وليس بقانونية وجودها المفترض ان يكون للجميع. المجتمع الذي تعرض لاضطهاد مثل المجتمع الفلسطيني يصبح مجتمع تقليدي جامد ، متوجه نحو الماضي يضع العرف كقاعدة للسلوك وكمعيار للنظرة إلى الأمور (حجازي ، 1976 )، و هو بدوره ذات المجتمع الذي يتفاعل بشكل تبادلي مع المؤسسات المختلفة، و يحدد طبيعة هذه المؤسسات و قيمها المهنية و العملية، لهذا فأن صلاح المجتمع يعني بالضرورة صلاح المؤسسات، و العكس صحيح. ولم تستطع المؤسسات الاهلية التصدي لمظاهر تفشي العشائرية وتأثيرها الاجتماعي وخصوصا على النساء اللواتي هن اكثر المتأثرات اسريا واجتماعيا.  و النظام العشائري يمحي الفردية ويعزز المجموع (collective) وعليه تصبح الحقوق والمسؤوليات الفردية مهمشة وضبابية.  وتؤثر على مفهوم المجتمع المدني الذي يفترض تجاوز البنى القبلية والطائفية و"المحلية"، لمصلحة مبدأ المواطنة،وحقوق الانسان.

و بالرغم من كل المعيقات التي قد تقف في وجه العمل الأهلي الفلسطيني، غير أنه من المجحف الحكم على دور هذه المؤسسات التاريخي و الوطني من خلال العودة لعدد من الممارسات الغير مسئولة و المحصورة بعدد قليل من الإفراد أو المؤسسات ، فالدور الذي قدمته هذه المؤسسات و الذي لا زالت الأغلبية الساحقة منها تقوم به،  يشير إلى حجم مساهمتها ألا محدودة في كل من قطاع الخدمات و الإغاثة و التوعية و تفعيل القطاعات المختلفة للجمهور الفلسطيني ، و الوقوف كسد حامي  لحقوق الإنسان في حياة مدنية كريمة، و في الحصول على خدمات ذات جودة  و في المطالبة المستمرة بدمقرطة المجتمع، و تفعيل دور المحاسبة و الشفافية في كافة مؤسساته.    .  غير أن نشاطاتها لا تتجانس من حيث الوظيفة التي تقوم بها، ولا هي متجانسة من حيث التأثير الذي يتركه نشاطها على المجتمع. هناك فروق في التأثير بين عمل مؤسسة ومنظمة وعمل مؤسسة ومنظمة أخرى على المجتمع، كما أن استجابة المجتمع لأداءاتها تختلف باختلاف استجابتها لحاجاته. 

التوصيات

  • محاولة "تحرير" اجندة العمل الاهلي في فلسطين من الهيمنة الخارجية ومحاولة تقليل الاعتمادية الكاملة على التمويل الخارجي.

  • تحديد الدور الاساسي التي تستطيع فيه هذه المؤسسات ان تكون مؤثرة والاعتراف بمحدودية  الاداء والتأثير العام ، مثلا ان تحدد كل مؤسسة رؤية واهداف ونشاطات واضحة تلتزم بها وتعمل عن 

  • تفعيل نشوء حركات اجتماعية قاعدية شبيهة بالحركات في امريكا الجنوبية.  

  • على المنظمات غير الحكومية لعب دور في رعرعة مفهوم الخيار الفردي والتهيئة له من خلال التعليم غير الرسمي ، النشاطات الشبابية ، وتعليم حقوق الانسان ، وان تكون اجندة هذه المنظمات نابعة بالأساس من الأولويات المحلية وليس من توجهات الممولين .

  • دعم توجه الشفافية و المحاسبة في العمل الأهلي نفسه، من أجل الإبقاء على صورة حضارية و مشرقة لهذا العمل، و في سبيل زيادة الثقة بين الجمهور و المؤسسات الأهلية.

  • تعزيز المبادرات التي تهدف لتطوير موارد دعم لا تخضع لشروط خارجية تتعارض و الأجندة المحلية للمجتمع الفلسطيني، مثل تطوير مشاريع ربحية، أو بحث عن مصادر غير مشروطة أو غير مباشرة.

  • الاتفاق على أولويات العمل الأهلي القائمة على الحاجات الملحة ، و تقسيم الأدوار بشكل لا يخلق تعارض أو تكرار في تقديم الخدمات أو في التغطية الجغرافية.

قائمة المراجع

-الباز، د. شهيدة. (1989).  ورقة عمل مقدمة في التنظيمات الأهلية العربية في مؤتمر، القاهرة ،31 أكتوبر إلى 3 نوفمبر 1989، ص 56-62. www.ngoce.org.

- بشارة، عزمي ، ( 1996).  مساهمة في نقد المجتمع المدني، (رام الله: مواطن)

- بشارة، عزمي. الهدف 1275 كانون ثاني 1998. مقابلة أجراها نصار ابراهيم وأحمد جابر. ص[59-65].

-سرحان، رولا(2006)  " حدود تدخل مؤسسات العمل الاهلي في العملية الانتخابية ( الانتخابات التشريعية الفلسطينية 2006).  وكالة وفا 25\12\2005. www.wafa.pna.net

 -الشلالدة، محمد. (2002).  ورقة عمل تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني في الصمود، مؤتمر البناء الديمقراطي المقاوم، رام الله.www.ngoce.org .

-عبد الهادي، د.عزت.(2004). "رؤية  أوسع لدور المنظمات الأهلية الفلسطينية في عملية التنمية" . رام الله: مركز بيسان للبحوث والإنماء.  (ورقة مفاهيم).

- محيسن ، تيسير ( لا يوجد تاريخ).  "التنظيمات الفلسطينية والمنظمات التطوعية " مجلة رؤية ، فلسطين. www.sis.gov.ps/arabic/roya/13/page3.html استرجع بتاريخ 26\08\2006.

 -المالكي، مجدي، شلبي، ياسر، السعدي، نعيم. (2001). تعداد المنظمات غير الحكومية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. الطبعة الأولى، رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس).

-Brynen, R. ( 1995) . The Neopatrimonial Dimension of Palestinian Politics. Journal of Palestine Studies, XXV: 1(97), pp.24-25.  

-Enloe, Cynthia, (1989) Bananas, Beaches and Bases:  Making Feminist Sense of International Politics, University of California Press, California, USA. 

-Halabi, Zeina. (2004). Arab Civil Society: Assessing Interpretations and Determining Challenges. A paper for Civil Society from the Arab Perspective: Experiences and Challenges in Iraq and the Region,” 15-17 October 2004 in Beirut.

www.boell-meo.org/en/web/95.htm, retrieved Aug. 20th, 2006.