You are here

الذكاءات المتعددة وواقع المدرسة التقليدية

المصدر: 
المركز الفلسطيني للإرشاد
الناشر: 
يحيى حجازي
السنة: 
2009
المدرس في المدرسة التقليدية، يواجه تحديات عند العمل مع طلابه بناء على مبادئ نظرية الذكاءات المتعددة الجوانب، سوف يتم التطرق في هذه المقالة الى بعض تلك التساؤلات

كانت نظرية الذكاءات المتعددة هي إحدى ثمرات أبحاث جامعة هارفارد في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، نظرية عرضت رؤية جديدة للإنسان، وطرحاً أوسع لمفهوم الذكاء. فالذكاء لم يقتصر على الجوانب التقليدية التي أثرت على فهمنا لطبيعة عقل الإنسان حتى نهاية القرن العشرين، ولكنها توسعت لتشمل صورة موسعة، ملونة وجميلة تسمح لرؤية الحد الأقصى من القدرات والميول لدى الأطفال الذين صنفوا سابقاً بأنهم لا يستطيعون مواكبة المتطلبات المدرسية الأكاديمية وغير مميزين في جوانب الذكاء التقليدية في حينه.

إن التعريف التقليدي للذكاء على أساس البعد اللغوي، المنطقي والحسابي كان الأساس في الرؤى التربوية حينها التي بنيت حسبه، وكان وراء الممارسات التدريسية التقليدية الموجهة لعمل المدرسين حتى يومنا هذا في معظم المؤسسات التربوية. فالمنظرين التربويين التطبيقيين وواضعي المناهج الأوائل، قد تأثروا بشكل كبير –باعتقادي- بالتعريف التقليدي للذكاء، فكانت رؤيتهم -المتأثرة بالثورة الصناعية آنذاك ومفهومهم للمهارات الضرورية والتي تنبؤهم في انخراط الطلاب في الجامعات والكليات المهنية- بأن على المدرسة إنشاء فرد مسيطراً على تلك المهارات فكان التركيز على الرياضيات والعلوم واللغة كمواد أساسية على كل الطلاب دراستها، فساد هذا الوضع لعشرات السنين ولم يتغير كثيراً حتى الآن.

إن من يقوم بترسيخ هذه الممارسات هم المعلمون والمعلمات الذين تلقوا تأهيلاً لا يبتعد في روحه أو مضمونه عن الرؤية التقليدية تلك، والتي ترى بالمعلم الجيد شخصاً يستطيع أن يسيطر على المواد التي يدرسها ويستطيع أن يوصل طلابه الى نتائج جيدة في الموضوع الذي يدرسه. يتحدثون كثيراً في معاهد وكليات تأهيل المدرسين عن الفروقات الفردية وعن ضرورة الفردانية في التدريس، ولكننا نجد أن أغلب المدرسين والمدرسات خريجي تلك المعاهد غير قادرين على ترجمة تلك المفاهيم في صفوفهم، وفي كثير من الأحيان غير مطالبين بذلك من قبل الإدارات التربوية. فعدم المطالبة -حسب رأيي- يظهر بأن مفهوم الفروقات الفردية حتى يومنا هذا هو مصطلح ككثير من المصطلحات التربوية الأخرى مثل ضرورة المشاركة، وضرورة التعلم الحر، والشمولية في التربية، كلها تبقى رؤى تربوية فائضة ليس للمعلم غالباً ملكة في تحويلها الى ممارسات ضمن المعطيات الصعبة في الصفوف التي يدرسون فيها، وضمن التأهيل الذي يحصل عليه من معاهد تأهيل المعلمين.

إذاً كيف يمكن ترجمة مفاهيم الذكاءات المتعددة في صفوف مكتظة، لا يستطيع فيها المعلمون العمل في مجموعات لعدم توفر المساحة الكافية لذلك، وفي ظل عدم توفر الطاقم المساند الذي يمكن أن يتواجد في الصف ليجيب على احتياجات بعض الطلاب الخاصة. والتساؤل هنا هو هل يستطيع المدرس ضمن المعطيات الفيزيقية الصعبة غالباً أن يجد التزاوج بين طرق تدريسه ومضامين مادته وبين ذكاءات الطلاب المتنوعة؟

قبل الإجابة على هذا التساؤل الشرعي، علينا أن نفهم محركات وأصول هذا التساؤل، باستخدام أسلوب طرح الأسئلة المتعلقة بالموضوع بدل إعطاء إجابة صماء في بداية الطرح. الأسئلة التي علينا الإجابة عليها قبل أن نجيب على هذا التساؤل هي:

  • ماذا يعرف المعلمون عن الذكاءات المتعددة؟
  • كم من المدرسين تدربوا خلال فترة دراستهم وتأهلهم لمهنة التدريس في مدارس تطبق هذا التوجه؟
  • ما هي الفلسفة التربوية التي يجب أن توجه الممارسات التربوية في المؤسسة التعليمية وتسير عمل طاقمها في هذا الاتجاه؟
  • هل يستطيع المدرس إيجاد التوازن بين ممارسات تعزز الفردانية في التعلم وبين انهائه للمنهاج الدراسي؟
  • كيف ستؤثر تلك الممارسات على وضع الطالب تعليميا، اجتماعياً وشخصياً؟

لربما يسهل علي أن اقارن وضع كل مدرسة وفحص قربها أو بعدها من ممارسات تربوية تأخذ بعين الاعتبار العمل بحسب الذكاءات المتعددة بنموذج مثالي لمثل تلك المؤسسة والذي يعكس الحد الأقصى الممكن، مع معرفتي بأن هذا النموذج هو قليل الوجود في المدارس الفلسطينية، ولكنه يساعدنا في فهم المركبات التي يجب توافرها في المؤسسة التي تريد تبني مثل هذا النموذج.

 

 إذا نظرنا الى النموذج السابق نستطيع الافتراض بأن تخوف المدرسين حتى بالتفكير في إدخال طرق تدريسية تأخذ بعين الاعتبار الذكاءات المتعدة هو متشعب الجوانب ومتأصل في دوائر مختلفة ساعدت في تطوير التوجه التقليدي للتدريس لديه. وهذه الفرضية تأخذ مصداقية من خلال ورش العمل المختلفة التي تم إجراؤها مع الكثير من المدرسين والمدرسات في السنوات الأخيرة. ولذا فإن المدرس ليس مسؤولاً أساساً في شكل التأهيل الذي حصل عليه، ولكنه بالطبع يعتبر مسؤولاً إذا ما قرر عدم تغيير هذا الوضع على مستوى الممارسة في صفه.

سأل أحد المدرسين في إحدى الورشات فيما إذا كان يستطيع تطبيق جميع الممارسات المبنية على تعدد الذكاءات في صفه المكتظ والضيق في مادة اللغة العربية! لربما لا يستطيع المدرس تطبيق كل الممارسات، لكنه إذا ما تمكن معرفياً من موضوع الذكاءات المتعددة وأخذ الوقت للتعرف على جوانب القوة وليس الضعف لدى طلابه وتحديد اهتمامات كل منهم، يستطيع أن يبتكر ممارسات بسيطة تسمح لأكبر عدد من الطلاب المشاركة الفعالة في الدروس. مثال على ذلك:

إذا كنت تعرف أن طلابك موزعين على مجموعات الذكاءات المتعددة (اللغوية، المنطقية، البصرية، الموسيقية، الطبيعية، الجسدية، الشخصية الداخلية والخارجية والوجودية) فإنك تستطيع أن تخطط مسبقاً صياغة أسئلة متعددة وبناء أوراق عمل تأخذ بعين الاعتبار تلك الاهتمامات وهذا لن يأخذ منك وقتاً إضافياً كبيراً، لكنه يحتاج منك الى التفكير والتخطيط لذلك مسبقاً. فإذا كانت حصة اللغة العربية مثلاً عن رحلة الى القدس، تستطيع أن تبنى أسئلة متنوعة تسألها لطلابك لجلب انتباههم وإثراء الحوار والنقاش في الصف، فبدل أن تكتفي بأسئلة تفحص مدى معرفة الطلاب للمادة فقط ومدى حفظهم للمعلومات المكتوبة، يمكن أن تنوع أسئلتك وتوجه للطلاب بحسب اهتماماتهم، ولتجسيد ذلك يمكن مثلاً طرح الأسئلة التالية:

1-    ماذا شاهد الطلبة عند زيارتهم البلدة القديمة في القدس؟

2-    ما هو شعورك عندما لا تستطيع الذهاب وزيارة القدس؟ تحدث عن ذلك.

3-    إذا أردت أن تخطط لرحلة الى مدينة بيت لحم، ماذا عليك أن تفعل (ما هي خطوات التخطيط للرحلة)؟

4-    كثيرة هي الأغاني والأشعار التي كتبت عن القدس والأماكن المقدسة (هل تعرفون بعض تلك الأغاني، أيمكننا أن نحضر تلك الأغاني ليوم غد).

5-    أمامكم صور للأماكن المقدسة (صور جيدة وأخرى سيئة)، ونحتاج الى اختيار أفضل صورة لكل مكان، قوموا باختيار الصورة وعللوا سبب الاختيار.

6-    ما هي الدوافع (الأسباب) الاسرائيلية حسب رأيك من وراء عدم السماح للفلسطينيين في زيارة القدس؟

7-    ما أجمل شئ أو مكان تحبه في مدينة القدس، فسر ذلك!

8-    أريدكم أن تغلقوا أعينكم وتروا أنفسكم تزورون الآن مدينة القدس، أين أنتم متواجدون الآن لماذا اخترتم هذا المكان؟

كذلك يمكن أن تقوم بعمل فعالية يقوم بها الطلاب بتركيب او قص ولصق أو رسم المدينة المقدسة، كل حسب رؤيته لها والتعبير عن ناتجه بعبارة أو ببيت شعر أو بنص أدبي بسيط، وعرض الناتج في الصف لفترة زمنية (مع الحفاظ على جمالية عرض الناتج).

مثال آخر تقترحه هريش (2009)* يظهر أشكال العمل الممكن أن يفكر بها المدرس عند تناول المواد التي يعلمها بروح الذكاءات المتعددة، الشكل يظهر الاختلافات بين الطلاب في احتياجاتهم وطريقة تفكيرهم وميول هؤلاء الطلاب.

 

* نضال هريش (2009). الذكاءات المتعددة، النظرية وآفاق التطبيق. الكرمة، العدد السادس، 194-218.

هل هناك طريقة يتعرف فيها المدرس على طلابه وذكاءاتهم؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد من أن تكون هناك معايير وأدوات لربما احتجنا الى تقنينها للتأكد من مجال الذكاءات التي يمتاز بها الطلاب، ولربما يكون هذا من مسؤولية الأخصائي النفسي المشخص. ولكننا كمدرسين ومدرسات نستطيع التعرف على المجالات التي يتميز بها طلابنا من خلال: تحليل كتابات الطلاب، الشهادات المدرسية، الحديث مع الزملاء وباقي الطلاب والأهل عن صفات بعض الطلاب، تمييز الطريقة التي يحل فيها الطلاب المشاكل والأحاجي، ومن خلال مراقبة طريقة تنفيذ الطلاب للمهمات المختلفة التي يقترحها عليهم المعلم.

لربما كنا كمجتمعات أكاديمية عربية مستهلكين للنظريات التربوية المطورة في الغرب والتي تم فحصها خلال تجارب على أرض الواقع ولعدة سنوات في تلك الدول وإجراء التعديلات وبناء النماذج التربوية وإدماج المفاهيم النظرية في المناهج التدريسية لديهم، لنحصل نحن في نهاية المطاف على زبدة عملهم، والتي لا نستطيع في كثير من الأحيان ابتلاعها مباشرة كونها لم تتبلور في مجتمعنا ولم تجرب لدينا، ولذا فإن تناول الذكاءات المتعددة في العمل التربوي بحاجة -وقبل كل شيء- الى فهم مبادئ وروح الطريقة قبل تطبيقها، ودراسة ممارساتها والتعرف على الممارسات الناجحة والممارسات السيئة ولا ضير في فحص تلك الممارسات على أرض الواقع وبناء النماذج التي تلاءم وضعنا المدرسي، وبالتالي اقتراح طرق واستراتيجيات عمل ممكنة قدر الإمكان يمكن من خلالها الإجابة على احتياجات أكبر عدد ممكن من طلاب الصف ومشاركتهم كل حسب قدراته وطريقة تعلمه للمادة المقدمة.