ملخص: تتناول هذه الورقة واقع الدراسات النفسية الفلسطينية والفجوة التي تفصلها عن طبيعة ومضمون العلاج والتجربة العيادية النفسية في المجتمع الفلسطيني، من هذا المنطلق يتم تناول غياب الدراسات المتعلقة بالاضطراب و العلاج النفسي في فلسطين من ناحية الكم و الكيف؛ حيث تعرض للدراسات الموجودة من جهة، و تعرض سريعا للمرافق التي تقدم خدمات العلاج النفسي و غياب البيانات الدقيقة عن خدماتها ، و تحاول سبر الأسباب وراء هذه الفجوة و النقص الواضح في غياب الرابط بين الحقلين النظري و العملي . و أخيرا تحاول أن تخرج بعدد من التوصيات المهمة في هذا الصدد.
واقع الدراسات النفسية الفلسطينية.
الأبحاث و الدارسات النفسية و العنف السياسي.
في العام 1988 أصدرت جمعية الدراسات العربية في القدس كتابا بعنوان " الصحة النفسية للنساء الفلسطينيات تحت الاحتلال الإسرائيلي" للباحثة الفنلندية رايا لينا بونامكي(1)، و ترجمة الدكتور أحمد بكر، الكتاب كان صدر بالإنجليزية في العام 1986. الكتاب كما وصفته الجمعية الناشرة " الأول من نوعه الذي ينشر و يصدر في الأراضي العربية المحتلة "(1). السيدة بونامكي كانت قد نشرت بالإنجليزية بحث أخر بخصوص الأوضاع النفسية في المجتمع الفلسطيني في العام 1981 ، حول الدوافع و الاستجابات العاطفية لدى الأطفال الفلسطينيين و الإسرائيليين. هذا الكتاب يشكل في نظري النص المؤسس للدراسات النفسية الفلسطينية، و هو محاولة جدية و علمية في تطبيق أدوات البحث النفسي العلمي على الأوضاع النفسية للنساء الفلسطينيات التي شملتهن الدراسة. أن بحث السيدة بونامكي يأخذ بالحسبان الخصوصية الاجتماعية و السياسية و الثقافية للمجتمع الفلسطيني. لهذا فهي لا تكتفي بتقديم الأرقام و تحليل العوامل و لكنها تعمد إلى تقديم مقتطفات دراسة حالة عن النساء اللواتي قابلتهن، و تستخدمها بشكل خاص في تقديم الإعراض و المقاومة ( التحمل ) للإحداث الضاغطة الناجمة عن الاحتلال و ممارساته. عينة البحث لم تكن نساء تعاني من اضطرابات نفسية، بل سيدات يعشن أوضاع فقدان أو صدمة أو ضغوط نفسية من الوضع السياسي القائم.
في السنوات التي تلت عام صدور كتاب السيدة بونامكي ، تلاحقت الدراسات النفسية الفلسطينية الوصفية الإحصائية،التي تستخدم أدواة قياس نفسي مقننة و علمية لدراسة مظاهر الصدمة ، الفقدان ، الضغوط النفسية ، التكيف الناجم عن ومع واقع الاحتلال : السيدة بونامكي،الدكتور إياد السراج (2)، الدكتور سمير قوطة(3) الدكتورة ريتا جقمان(4) ،الدكتور عبد العزيز ثابت (5)، الدكتورة كايروا عرفات(6) ، الدكتورة فيفيان خميس (7)، الدكتور احمد بكر (8)و آخرون(9)،و الذين ساهمت دراساتهم بشكل كبير في :-
1- خلق نواة للدراسات النفسية الفلسطينية حول موضوع الصدمة و الفقدان و التكيف .
2- فضح الآثار النفسية السلبية لواقع الاحتلال.
3- التجاوب مع الحاجة الماسة و الضرورية لدراسة الآثار النفسية للعنف السياسي العسكري، و ما تنتجه هذه الآثار من فقدان و صدمة و ضغط نفسي، أو أنماط تكيف و مقاومة خاصة و فريدة.
في المقابل فان هذه الدراسات، تمركزت بطريقة عرضية حول موضوع الصدمة و التكيف، فهي من هذا المنظار متخصصة في هذا الحقل من الدراسات النفسية الوصفية الإحصائية. غير أن أي من هذه الدراسات الوصفية الإحصائية لا تتناول عينة المصابين باضطراب نفسي ، و لا تعتمد على تجارب عيادية نفسية. و بالرغم من الصفة الإحصائية النفسية فان هذه الدراسات لا تقدم معلومات إبدميولوجية( نسبة انتشار المرض) دقيقة حتى عن الإعراض و الاضطرابات المختلفة ( القلق ، و المزاج ) الناجمة عن الصدمة. و هي لا تتناول ظروف و إشكال و واقع الإرشاد و العلاج النفسي في فلسطين و السبيل إلى تطويره. حتى عندما تفعل كما هو حال تقرير معهد الصحة العامة و المجتمعية التابع لجامعة بيرزيت(10)، حول وضع الإرشاد و الدعم النفسي في فلسطين، فان الدراسة تأخذ طابعا وصفيا إحصائيا ، و هي بالمناسبة مساهمة كبيرة و قيمة ، و تعتبر خطوة إيجابية في مجال الدراسات النفسية الفلسطينية سنعود إليها لاحقا.
الدراسات النفسية الاجتماعية
في المقابل فأن عدد من المختصين في مجال الصحة النفسية و الخدمة الاجتماعية تناولت مواضيع دراستهم في الغالب العنف الأسري و الاجتماعي و أثاره النفسية. و كان على رأسهم الدكتورة نادرة كفيركيان و الدكتور محمد الحاج يحيى و آخرون (11)، غير أن هذا المنحى كان كذلك وصفي إحصائي يعتمد العينات العامة المختلفة، و يقيس العوامل النفسية بناء على أسلوب إحصائي بحت، و ساهم هذا التوجه في الدراسات النفسية الفلسطينية من حيث:-
1- خلق أدبيات نفسية عن ظاهرة العنف الأسري و المجتمعي في فلسطين.
2- خلق وعي حول ظاهرة العنف الأسري و الاجتماعي و توضيحا أثارها النفسية و الاجتماعية.
3- و المساهمة في توسيع و تنويع نواة الدراسات النفسية الفلسطينية.
لهذا فان هذا النوع من الدراسات متخصص في موضوع الآثار النفسية و الاجتماعية للعنف الأسري و الاجتماعي، و هي دراسات مهمة جدا كما هو حال تلك المتعلقة بالعنف السياسي في توضيح عوامل الإجهاد و التوتر المتوفرة في بيئة الفرد الفلسطيني. غير أن هذه الدراسات في المقابل لا تعتمد هي الأخرى على نتائج و تجارب أو عينات إكلينيكية ، عيادية نفسية. و لا توفر قاعدة معلومات إبدميولوجية حول الاضطراب النفسي ، بالرغم من أهميتها من الناحية النفسية العلمية و العملية .
المنحى العيادي الإكلينيكي.
دراسة الدكتور ميشيل صنصور" المرأة الفلسطينية و الصحة النفسية " 1995،(12) و التي تشكل خطوة إلى الأمام في الدراسات النفسية الفلسطينية ، فالدكتور صنصور، و بالرغم من أنه يقوم بدراسة إحصائية غير أنه ينظر إلى الاضطراب النفسي بشكل عام لدى المرأة الفلسطينية ، و يضاف إلى هذه الدراسة دراسته النفسية عن الشيخوخة و التي لم يتسنى لي الإطلاع عليها للأسف. ان هذا المنحى الذي يأخذه الدكتور صنصور يتماشى مع تخصصه في مجال العلاج النفسي العيادي. و يدفع بالأبحاث النفسية نحو العيادي ، لكن و ربما لأسباب سوف نأتي على ذكرها لا حقا فأن هذا البحث لم يكن يعتمد على قاعدة بيانات عيادية بل على عينة من 1500 أنثى من جيل 18-60عام موزعات على مناطق الضفة الغربية و قطاع غزة.
شهد مطلع التسعينات تحول مهما و جذريا في مجال الدراسات التي تتناول طبيعة و واقع العلاج النفسي في المجتمع الفلسطيني على يد الدكتور مروان دويري(13). و الحقيقة أن الدكتور الدويري يقدم مجموعة كبيرة من الدراسات(14) التي تتعامل مع قضايا و عوامل أخرى في الصحة النفسية ، و نظرته إلى العلاج النفسي في المضمون الإجتماعي الفلسطيني شمولية و تدفع إلى تطوير إساليب علاج مقننة و قادرة على تلبية الحاجات النفسية و الإجتماعية للفرد الفلسطيني ، و تتمحور الكثير من أعمال الدكتور الدويري على صعوبة تطبيق العلاج النفسي الغربي على المجتمعات الجمعية كما هو حال المجتمع الفلسطيني . و تكون دراسات الدكتور الدويري بهذا قد تجاوزت إشكاليات مهمة في مجال الدرسات النفسية الفلسطينية: -
1- الإعتماد على التجربة العيادية لإستخلاص النتائج.
2- دراسة عوامل مختلفة و متعدد في الإعراض و الإضطرابات النفسية.
3- تقديم نماذج جديدة و خلاقة في سبيل تطوير خدمة علاج نفسي ملائمة للفرد الفلسطيني.
4- تطوير نظرية مقنعة حول صعوبات تطبيق العلاج النفسي الغربي في المضمون الإجتماعي الفلسطيني.
5- تطوير نظريات و فرضيات علمية و عيادية نفسيةعن الإفراد في المضمون الإجتماعي الفلسطيني.
6- تقديم دراسات حالة عيادية.
7- نقل الدراسات النفسية الفلسطينية إلى العالمية، لا من حيث النشر و لكن من حيث خصوصية التجرية العيادية الما بين حضارية(15) التي يعرضها الدكتور الدويري.
8- تطوير اختبارات نفسية محلية(16)، مثل اختبار DLD لقياس صعوبات التعلم و اختبارات أخرى.
ان مساهمة الدكتور مروان دويري، تتعامل مع الفرد الفلسطيني و طرق علاجه النفسي و فهمه في الوضع العيادي و في المجتمع الصغير ( العائلة )، و بالرغم من أن الدكتور الدويري يعتمد هو أيضا الإسلوب الإحصائي الوصفي مع عينة من المصابين بالاضطراب في بعض دراسته ، غير أنه يعتمد على التجربة العيادية و دراسة الحالة(17) . و هو الأمر الذي يعتبر إنجاز في ظل الغياب الكامل لهذا النوع من الإبحاث و الدراسات الفلسطينية ، غير أن هذه الدراسات و بحكم أنها تعبر عن تجربة الدكتور الدويري في الناصرة و الداخل لا توفر تصور شامل عن التجربة العيادية الفلسطينية خصوصا في القدس و الضفة الغربية و قطاع غزة ، و كذلك فيما يتعلق بنسب إنتشار الأضطرابات و نوعها.
في العام 2004 أصدر معهد الصحة العامة و المجتمعية، دراسة بعنوان " الرعاية الصحية النفسية- الاجتماعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة: نظام في طور النمو" ، قامت الدكتورة ريتا جقمان(18) بتحليل بياناتها و عرضها . و هي في الواقع خطوة نوعية في سبيل تكوين تصور أولي عن وضع الإرشاد و العلاج النفسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، و بالرغم من أن طريقة جمع البيانات كانت إحصائية، و تمت في ظروف صعبة جدا، غير ان كل من النتائج التي وصلت إليها الدراسة و تحليلها قد قدم مدخل حقيقا إلى فهم واقع الصحة النفسية في فلسطين، في حين أن واقع الدراسة الإحصائي قد ساهم في تكوين بيانات كمية ، غير أنه لم ينفذ إلى التجربة العيادية للمؤسسات و المرافق التي تقدم خدمات الصحة النفسية و العلاج النفسي.كما أن بياناته المتعلقة بالمنتفعين و طرق التدخل معهم كما تقول الدكتورة جقمان كان من الصعب التحقق منها. غير أن هذه المساهمة و ما فيها من تحليل للبيانات يجعلها مرجع مهما في فهم وضع خدمات الصحة النفسية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
نتذكر في هذا الصدد مساهمات الدكتور علان القريناوي(19)، و الذي عمل في عدد من الأبحاث و الدراسات حول واقع و شكل العلاقة بين الفرد الفلسطيني و العلاج النفسي و الاجتماعي ، حيث درس تجربة العمل النفس الاجتماعي لدى القبائل البدوية في منطقة بئر السبع. و الدكتورة خولة أبو بكر(20) في دراستها " المشاكل الزوجية في العائلة العربية : بين التدخل الثقافي و تدخل العلاج العائلي" , و دراسات أخرى احتوت دراسات حالة سلطت من خلالها الضوء على قضايا في الصحة النفسية في المضمون الثقافي الاجتماعي الفلسطيني (20). و بحث الدكتور شفيق مصالحة(21) حول تفسير أحلام أطفال فلسطينيين. دراسة حول المضامين النفسية في أحلام أطفال فلسطينيين.
يمكن من العرض السابق أن نستنتج بشكل عام الأمور التالية:-
1- اغلب الدراسات التي تمت إلى اليوم هي وصفية إحصائية باستثناء بعض دراسات الدكتور دويري.
2- الدراسات الفلسطينية التي تدور في عدد كبير منها حول موضوع الصدمة و الفقدان ، هي نواة صلبة للأبحاث المتخصصة في هذا المجال، و هي بهذا فريدة و خاصة .
3- الدراسات النفسية حول موضوع الصدمة و الفقدان لبت حاجة مهمة و ملحة للبحث النفسي الفلسطيني، من حيث أنها درست الآثار النفسية الخطيرة لواقع الاحتلال، و فضحت في نفس الوقت هذه الآثار على المستوى المحلي و العالمي.
4- بالرغم من أن الدراسات النفسية الفلسطينية عن موضوع الصدمة إحصائية و صفية ، غير أننا لا زلنا نفتقر لبيانات أبدوميولجية واضحة و ثابتة عن نسب انتشار أعراض و اضطرابات الصدمة و الفقدان في المجتمع الفلسطيني.
5- يمكن أن نجزم بان الدراسات النفسية الوصفية الإحصائية لا عيادية لأنها لم تعتمد بيانات أو عينات عيادية.
6- الدراسات النفسية الاجتماعية تلبي حاجة كبيرة في مجال دراسة البيئة العائلية و الاجتماعية و القانونية للفرد الفلسطيني، و هي مختصة فيما يتعلق بموضع العنف الأسري، و مكانة المرأة ووضعها النفسي بشكل عام في المجتمع و العائلة الفلسطينية، غير انها غير عيادية .
7- الدراسات النفسية العيادية الفلسطينية، خطت خطوات مهمة في كل من البحث و الدراسة النفسية الفلسطينية .
8- تتجنب الدراسات النفسية الفلسطينية فيما عدى بعض دراسات الدكتور مروان الدويري الاعتماد على عينة أناس يتلقون العلاج في مرافق الصحة النفسية.
9- البيانات الإبدميولوجية و الإحصائيات العامة المتوفرة لدينا عن نسب انتشار الاضطرابات النفسية في فلسطين غير كافية و لا دقيقة و لم يتم التأكد منها بطريقة صحيحة.
10- تشكل الدراسات الإكلينيكية القليلة المعتمدة على دراسة الحالة مخرج حقيقا لجمود الدراسات الإحصائية الوصفية ، من حيث تسلط الضوء على الفرد الفلسطيني في مضمونه الاجتماعي و الثقافي و الاقتصادي و السياسي و علاقة ذلك مع الاضطراب و العلاج النفسي.
11- بالرغم من قلة عدد الأخصائيين النفسين الفلسطينيين غير ان إنتاجهم البحثي مهم و مستمر.
12- تشير دراسة نشرة في مجلة الصحة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، في مجلدها الحادي عشر العدد الثالث، 2005بأن فلسطين احتلت المرتبة الأولى من حيث إصدار الدراسات و الأبحاث النفسية بين البلدان العربية بين العامين 97-02. (22)
تقرير الأنماط في المركز الفلسطيني للإرشاد
في العام 1999 فكر طاقم المركز الفلسطيني للإرشاد بالتشاور مع عدد من الأخصائيين النفسين في إجراء بحث هو الأول من نوعه ربما في فلسطين، و كان على رأس الأهداف هذا البحث ، تكوين تصور عام عن أنماط المنتفعين/ات مراجعي المركز خلال 6 سنوات، بحيث يكون هذا البحث مقدمة لدراسات التجربة العيادية للمركز، و المتعلقة بالاضطرابات النفسية و تقديم خدمة العلاج النفسي. و بناء على هذا الأمر تم تشكيل لجنة لهذا البحث، قامت بداية بتصميم استمارة تفريغ للمعلومات الواردة في ملفات المنتفعين/ت. لقد تميز هذا التقرير بأنه حاول بشكل كبير أن يقترب من دراسة التجربة العلاجية للمركز خلال السنوات المذكورة، و كانت البيانات التي حصل عليها المركز من التقرير كثيرة و غنية، غير أنه واجه الكثير من العقبات الأساسية الداخلية و الخارجية. و كان على رأس المشاكل التي واجها التقرير:
1- ضبابية التشخيص: لا يوجد طريقة واحدة لتشخيص الاضطرابات.
2- صعوبات داخلية متعلقة بطبيعية استمارة المعلومات الأولية.
3- غياب الأدبيات المحلية التي تقدم مرجعية لتحليل النتائج على ضوء دراسات فلسطينية أخرى.
4- غياب العلاقة بين التجربة العيادية النفسية في فلسطين و الأبحاث و الدراسات النفسية و هو الأمر الذي نحاول أن نسلط عليه الضوء في هذه الورقة.
لقد سلطت النتائج التي حصلنا عليها الضوء على سؤال مهم حول العلاقة بين العلاج النفسي و الدراسات النفسية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، هل من رابط ؟ بين : -
1- تقديم الخدمات و أبحاث الفعل ( (action research .
2- التجربة العيادية النفسية و دراسات الحالة ، و دراسات مرافق تقديم الخدمة ، و دراسات تهدف لتطوير كل من الجانب الأكاديمي و العيادي على حد سواء.
3- الواقع الحقيقي لنسب انتشار الاضطرابات النفسية بين الفلسطينيين و الدراسات و البيانات الوبائية ( الإبدميولوجية ).
4- الدراسات الإكلينيكية و طريقة تعبير الاضطراب عن نفسه بالإعراض الخاصة ذات المضمون الثقافي – الاجتماعي.
لقد كان القدر الحقيقي للعمل العلاجي النفسي و الدراسات النفسية أن يفترقان، فأما هذا أو ذاك، و لكن أبدا هذا و ذاك. فالمعالج في مؤسسة، و الباحث في مؤسسة أخرى، و حتى عندما يكونان في نفس المؤسسة فأن الدراسة لا تستهدف التجربة العلاجية و المضطرب، كما هو حال برنامج غزة للصحة النفسية، على العكس من الدراسات الاجتماعية النفسية القانونية خصوصا في مركز المرأة للإرشاد القانوني و الاجتماعي و التي نجحت في عكس وضع المرآة من جوانب كثيرة و متعددة ، و وفرة بيانات مفيدة لتخطيط التدخل و العمل. هنا لا بد أن نستنتج أمور مهمة عن حقيقة أن الدراسات التي يقوم بها العاملين في الحقل نفسه هي الأكثر أهمية، غير أنه إذا ما كان هذا الحقل يعاني من إشكاليات و معيقات حقيقة تجعل من ممارسة العمل فيه حرجة للغاية كما هو حال الخدمات النفسية في فلسطين التي سنحاول أستعرضها هنا ، فان البحث الإكلينيكي النفسي سيبقى ضعيف و مترددا.
تجربة العلاج النفسي الفلسطيني.
يهتم هذا الجزء بتجربة العلاج النفسي في القدس الشرقية و الضفة الغربية و قطاع غزة، كما أنه يتناول فقط العلاج النفسي اللا طبي. و من المهم قبل أن نخوض في موضوع خدمات الصحة النفسية، أن نحددها بالقول أننا نقصد مرافق الصحة النفسية التي يتلقى فيها المنتفع/ة علاج نفسي بسبب اضطراب نفسي، يكون المرفق الصحي قادر على تشخيصه و قياسه و علاجه. ( نتحدث عن مرافق العلاج النفسي الخارجي و الداخلي: (outpatient and inpatient : عيادات و مستشفيات العلاج النفسي الحكومي و العيادات التابعة لوكالة الغوث و للمؤسسات الغير حكومية.(23)
البداية. ( المركز الفلسطيني للإرشاد ).
في العام 1983 بادرت مجموعة من الأخصائيين / ات النفسيين /ات و الاجتماعيين /ات و التربويين / ات إلى تأسيس المركز الفلسطيني للإرشاد، في سبيل تحسين وتطوير مفهوم وخدمات الصحة النفسية في فلسطين(24) ، و لم اهتدي على مؤسسة سبقت المركز الفلسطيني للإرشاد للعمل في مجال تقديم خدمات علاج نفسي فردي أو جمعي، لهذا فان المركز الفلسطيني للإرشاد سباق في هذا المجال، يضاف إلى ان المركز الفلسطيني بقي المركز الوحيد لعدد غير قليل من السنوات الذي يقدم هذه الخدمة ، و لقد أمتد هذا الأمر إلى أزخر الثمانينات و مطلع التسعينات إلى أن ظهرت مراكز أخرى، غير أن هذا الأمر لا ينفي أن عدد من الأخصائيين النفسيين القلائل قد عمل بشكل فردي في تقديم خدمة العلاج و النفسي في هذه الفترة.
مع قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية، شهدت أعوام التسعينيات ظهور لعدد كبير من المؤسسات الحكومية والغير حكومية و التي كان عدد قليل منها مختص في مجال العلاج النفسي، و عدد أخر كبير يقدم برامج أرشاد و دعما نفسيا في وقت الأزمات، و التي ازدادت بشكل كبير في بداية القرن الحالي بعيد بداية الانتفاضة الثانية.
وضع خدمات الصحة النفسية اليوم.
إذا ما نظرنا اليوم إلى خارطة خدمات العلاج النفسي الفلسطيني، لوجدنا مجموعة كبيرة من مرافق الصحة النفسية و الاجتماعية في كل من وزارة الصحة الفلسطينية و وكالة الغوث و المراكز و المؤسسات الغير حكومية ، ولوجدنا إحصائيات من هذه المؤسسات تتعلق بعدد المراجعين و بطريقة عامة جدا طبيعة الخدمات و نوعيتها. لقد حدثت طفرة غريبة في مجال تقديم الخدمات العلاجية الخارجية في مطلع القرن الحالي، لكن لا تدعوا هذه العبارات تخونكم فعدد المرافق التي تقدم خدمات علاجي نفسي متخصصة قليلة و نادرة، كما أن الكثير من الإحصائيات المتوفرة من قبل الجهات التي تقول بأنها تقدم هذه الخدمات غير متناسقة و تعتمد على إحصائيات عامة سريعة ، و فيها الكثير من التعارض من حيث المعطيات النهائية ، فلقد أورد تقرير لمنظمة الصحة العالمية عن تطوير خدمات الصحة النفسية الاجتماعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة (25) مجموعة متعدد من الإحصائيات التي حصل عليها من مرافق الصحة النفسية في فلسطين ، من مراجعة الأرقام يتبين للمرء مدى اختلافها عن تجربتنا العلاجية، و الأرقام التي حصلنا عليها في المركز الفلسطيني للإرشاد، فمن خلال تجربة المركز ، يتبين دائما أن عدد الإناث البالغات المراجعات لمرافق الصحة النفسية اكبر بكثير من عدد الذكور البالغين ، و أن عدد الأطفال المراجعين من الجنسين هو ضعف عدد البالغين من الجنسين، في المقابل فان الأرقام التي توردها وزارة الصحة في تقريرها تأتي على العكس من خلال حصول الذكور البالغين على النسبة الأولى من مراجعي المرافق العلاجية النفسية ، و أن الأطفال لا يشكلون سوى 15% من المراجعين للمجموع العام. و تكتفي الوزارة في العام 2005 بنشر فقرة واحدة(26) حول وضع الاضطراب النفسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة و التي لا يمكن أن نستشف منها الكثير. أما عن وضع الصحة النفسية في العام 2004 (27)فأن الأرقام و الإحصائيات أكثر دقة و لكن غير واضحة. في كل الأحوال من العبث ان يحاول المرء الوصول إلى أرقام دقيقة، و لقد عمدت هنا أن أورد ما جاء في خطة تنظيم خدمات الصحة النفسية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، الصادر عن اللجنة التنسيقيّة للصحة النفسية في شباط 2004 (28) : -
1- يعمل لوزارة الصحة في القدس الشرقية و الضفة الغربية و غزة ، 13 عيادة علاج نفسي ، يتراوح عدد موظفيها في الضفة ، بين 1 في أريحا و خمسة في نابلس ، حيث يتكون فرق العمل في طاقم نابلس حسب بيانات الخطة، طبيبان نفسيان ، و أخصائيان نفسيان ، أخصائي خدمة اجتماعية . يضاف إلى ذلك عيادة صحة نفسية للأطفال في غزة، و مستشفيين للإمراض النفسية و العصبية، في بيت لحم و غزة، مع فريق عمل من 135 أخصائي/ة؟
2- 23 مؤسسة غير حكومية مختصة أو لديها برامج علاج و صحة نفسية.
3- 66 عامل/ة صحة نفسية يعملون في وكالة الغوث، يقدمون إرشاد نفسي في مخيمات القطاع. لا يرد هنا ذكر لعدد المرشدين في الضفة. في نفس الوقت تحدثت وكالة الغوث عن نيتها أن خلق نقاط تدخل في الأزمات ، و لا يتعدى دور اليونيسيف حسب الخطة سوي التدريب و توعية الأهل و الطلاب و المدرسين.
هذه المعطيات في الكثير منها تتعارض مع نتائج دراسة معهد الصحة العامة – المجتمعية الواردة أنفا، خصوصا فيما يتعلق بعدد المؤسسات، و العالمين/ة ، فقد شملت دراساتها في البداية 73 مؤسسة تقدم خدمات صحة نفسية مجتمعية ، لتبقى في النهاية 57 مؤسسات، بما في ذلك كل المؤسسات الحكومية و غيرها وكالة الغوث حتى نيسان 2004. (29)
يبقى أن نتذكر أن نقابات الأخصائيين النفسيين و الاجتماعيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، تشبه مملكة الدويلات، و لا زالت الكثير من القوانين و التشريعات المتعلقة بمزاولة مهنة العلاج ، عالقة هنا و هناك . فبمقابل فوضى تقديم خدمات الصحة النفسية، تغيب علاقات التشبيك الحقيقة بين المؤسسات العاملة في حقل الصحة و العلاج النفسي. و هو الأمر الذي يجعل من تقصي حقيقة و واقع الصحة و العلاج النفسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير دقيقة.
كان هناك بعض الدراسات التي قام بها غير الفلسطينيين غير انها لم تكن أكثر دقة ، وعانت من مشكلة عدم القدرة على تكوين صورة متكاملة لخارطة و واقع العلاج النفسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. و في وصف عام لحالات المرافق العامة للصحة النفسية في فلسطين كما يقوم به بعض الباحثين الغربيين2000(30) يتبين الكثير من الإشكاليات في هذا المجال و التي هي:-
1- انعدام شبه كامل للطب النفسي للأطفال و اليافعين. ( ا خصائي/ة 1)
2- عدد غير كافي من الأطباء النفسين( 1/250000) عدد منهم سيدخل سن التقاعد قريبا.
3- 5 فقط من الأطباء النفسيين العاملين في الأراضي الفلسطينية من أصل 12 طبيب نفسي متخصصين بشكل كامل في الطب النفسي ، أما البقية فهم اطباء عامين حاصلين على دورات أو تعليم أضافي في الطب النفسي.
4- غياب كامل لتدريب و تعليم الأطباء العامين حول مواضيع الطب النفسي و الصحة النفسية.
5- غياب برامج البحث، و القليل من البيانات الإبدميولوجية ، أدوات تقيم غير كافية لأنها كمية.
6- عدد الممرضين /ات و العاملين/ ات الاجتماعيين / ات غير كافي و ليس لديهم معرفة نظرية أو عملية بالطب النفسي.
7- لا يوجد أي أخصائي نفسي إكلينيكي مؤهل.
8- عدد مراكز الطب النفسي الاجتماعي قليلة و غير كافية، و تنقصها الكثير من الحاجيات.
9- غياب التنسيق و التعاون الحقيقي بين مرافق الصحة النفسية في فلسطين.
السيدة سلفي منصور(2004)(31) تقدم لنا مساهمة قيمة في هذا الصدد، حيث تحاول أن تجمل واقع العلاج النفسي الاجتماعي في فلسطين، من خلال عرض واقع هذا العمل، و لا تخلوا نظرة السيدة منصور من عرض نقدي للنواقص و الإشكاليات التي توجه واقع العلاج النفسي و الدراسات النفسية الفلسطينية. و بالمناسبة فان السيدة منصور نشيطة جدا في مجال الدراسات و العمل النفسي في فلسطين. و تشدد السيدة منصور على كل من غياب الأدوات الجيدة في القياس و نقص الأخصائيين، و تضخم الذات لدى بعض المرشدين ، و غياب البرامج الجامعية الكافية لتخريج أخصائيين نفسيين قادرين على القيام بدورهم بشكل صحيح، كما لا تغفل السيدة منصور طفرة العمل النفسي الاجتماعي في فلسطين بعيد الانتفاضة الثانية، و الذي لا يخلوا من الشوائب و الإشكاليات, و تشك في مدى فعالية طريقة التدخل خصوصا عندما يقدمها من هم من غير الأخصائيين النفسين.
وضع الخدمات النهائي و العلاقة بينها.
و يمكن الاستنتاج بشكل سريع من ما تقدم بان وضع العلاج النفسي في فلسطين يعاني من :
1- غياب الإحصائيات و البيانات الدقيقة و الموثوق فيها عن وضع خدمات العلاج النفسي في فلسطين.
2- غياب التنسيق المثمر و الحقيقي بين الجهات العاملة في مجال العلاج النفسي.
3- شحت الأخصائيين النفسين العلاجيين، و الأخصائيين النفسين الآخرين.
4- غياب الكفائة و التخصص المطلبيين عن الكثير من المؤسسات و الإفراد الذين يقدمون هذه الخدمات المهمة.
5- غياب البيانات الوبائية ( الإبدميولوجية ).
معيقات البحث و العلاج النفسي في المجتمع الفلسطيني.
الجيوسياسية: لقد لعب الاحتلال دورا سلبيا مستمر في كل ما يتعلق بتطور الفرد و المجتمع الفلسطيني، و لقد حاول أن يؤثر على كافة مجالات الحياة الفلسطينية، فليس من الغريب أن يندرج و يمتد تأثير هذا العامل السلبي المعطل على التجربة النظرية الأكاديمية و التطبيقية النفسية الاجتماعية الفلسطينية . فلو نظرنا إلى تاريخ تطور الدراسات الفلسطينية لوجدنا بان أغلب الدراسات النفسية الفلسطينية تتعلق بموضوع الصدمة و التكيف معها، لا من اجل الحذلقة العلمية و لكن في سبيل دراسات الآثار النفسية الصعبة لواقع الاحتلال. و عندما نتحدث عن هذا المعيق الأساسي يجب أن لا نتجاهل بأنه يؤشر بشكل مباشر في كل من المعيقات الأخرى التي سوف نأتي على ذكرها لاحقا. ان الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية الصعبة التي يعيشها الفلسطينيين نتيجة الانتهاك اليومي لحقوقهم الأساسية تقف عائق أمام تطور مناحي الحياة الصحية و الفكرية الجيدة، و تنتج تسمم مستمر في البيئة العامة للفرد مما يتسبب في التأثير على قدراته الإنتاجية ، و استخدامه لمعطيات البيئة بشكل إيجابي. (32)أن و احد من إشكال هذا المعيق هو الفرق بين التجربة العيادية و البحثية لدى أخوتنا في فلسطين ال48 ، و تلك التي في الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 67.
الثقافية – الاجتماعية: العمل النفسي الاجتماعي كما رأينا حديث في فلسطين، و هو ليس ذو شعبية لعدد من الأسباب المعقدة و المتداخلة ، وهذا المعيق كبير بالأساس فيما يتعلق بتقديم الخدمات النفسية ، و تلقيها و إستدخالها كجزء طبيعي من تجربة المجتمع الفلسطيني. يتحدث كل من الدكتور الدويري و غريناوي و اخرون (33)عن صعوبة تقديم خدمات الصحة النفسية و الاجتماعية في المجتمع العربي الفلسطيني. و يقع تحت هذا العامل الطابع الجمعي للمجتمع الفلسطيني، و غياب الفردية بالمعنى الغربي، و مصادر الدعم الاجتماعي ، و الوصمة الاجتماعية، و وسائل العلاج البديلة في حالة الاضطرابات و المشاكل النفسية . و عوامل أخرى متعلقة بالمعتقدات الدينية و الاجتماعية و التي تقف عائق أمام تطبيق و تقديم خدمات الصحة النفسية و معرفة فعاليتها، و دراسة مخرجاتها. غياب الوعي بفائدة العلاج النفسي الغير دوائي ، قد يكون عائق حقيقيا أمام التجربة العيادية، كما تشدد الدكتورة خولة أبو بكر على أن المعيقات الاجتماعية و الدينية تسبب في طلب العلاج في مراحل متأخرة و معقدة من الاضطراب أو المشكلة النفسية(34). و يشدد الدكتور الدويري على ضرورة احترام الخلفية الثقافية و الاجتماعية للفرد، و توسيع التجربة العيادية الفردية لتشمل العائلة و المحيط، ففي نظره أن المشكلة النفسية لدى الفرد العربي الفلسطيني ناجمة في الأغلب عن الصراع مع الإفراد لا عن صراع نفسي داخلي(35). في كل الأحوال فأن كل من حداثة و غرابة العلاج النفسي على المضمون الاجتماعي الثقافي تجعل من التجربة العلاجية محدودة الانتشار و التأثير ، و تواجه مشاكل مثل إيمان الأفراد بها ، وقدرتهم على الالتزام بها و بمتطلباتها ، و قبولها ، و الوصمة الاجتماعية . مما يتسبب في الأغلب في واحد من أمرين ، أما العزوف عن هذه الخدمات ان علم عنها ، أو عمليات علاج غير مكتملة أما من الناحية الزمنية أو من الناحية النوعية.
الاقتصادية: على الرغم من أن الأرقام التي حصلنا عليها في المركز الفلسطيني للإرشاد تشير إلى أن الفئات الأكثر استفادة من خدمة العلاج النفسي في المركز ،خلال أكثر من عقد كامل من الزمن، هم ميسوري الحال أو أصحاب الأوضاع الاقتصادية ألمتوسطه ، و تشكل فئة المنتفعين/ات القادمين/ ات من أوساط فقيرة نسبة لا تتجاوز 20% من نسبة المستفيدين . غير أن هذه الأرقام لا تعني بأي شكل من الإشكال بان الفقراء في بلادنا أقل إصابة بالاضطرابات النفسية من الأغنياء أو أبناء العائلات متوسطة الدخل ، وقد يكون لكل من عامل الوعي بهذه الخدمات دور كبير في هذه النسبة القليلة من الفقراء ، فالمعروف أن نسب عالية من المجتمع الفلسطيني تعاني من ظروف اقتصادية تجعلها تحت خط الفقر. كما لا يمكن أن نتجاهل أن هذه الخدمات و بالرغم من رمزية مقابلها قد تكون صعبة المنال للكثير من الإفراد و العائلات الفقيرة، أن هذا الأمر بحاجة إلى دراسة أعمق. غير أن العامل الاقتصادي بشكله الشامل يؤثر على توفر المهنيين و المصادر و الأدوات و التدريب في حقل العمل النفسي في كل من مرافق الصحة النفسية و المرافق الأكاديمية. علما بان تقديم خدمة العلاج النفسي مكلفة على كل من صعيد الموارد البشرية و المادية. و هي غير مشمولة في التأمين الصحي .
الأكاديمية: أن الوضع الأكاديمي لعلم النفس العام و علم النفس العلاجي و التطوري و فروع علم النفس الأخرى في الجامعات و المعاهد الفلسطينية بحاجة إلى وقفة تأمل ، فالبرامج الجامعية غير متخصصة ، و بحاجة إلى إعادة هيكلة و تصميم(36) ، يضاف إلى ذلك العدد القليل من الأكاديميين المتخصصين، و غياب برامج التدريب ذات الإطار النظري و العملي الهادف ، لقد كان موضوع علم النفس لسنوات طويلة غائب عن التخصصات الأساسية في الجامعات الفلسطينية ، و برامج التخصص التي ظهرت في التسعينات بدأت بالتراجع نتيجة للظروف السياسية و الاقتصادية و قلة عدد المختصين أو انشغالهم في أعمال أخرى. أن البرامج المتوفرة حاليا تقود إلى معرفة عامة في علم النفس و فروعه، كما أن عدد ساعات التخصص في الأغلب لا تتعدى 62 ساعة ، أن الحاجة الماسة للمعالجين النفسين في فلسطين تحتم على الجامعات و المعاهد إعادة النظر في برامج تخصص علم النفس و كيفية تطبيقها و شبكها بالمؤسسات المهنية بطريقة تضمن تزويد الطلاب /ات بمعرفة عملية و نظرية معقولة و مؤسسة في مجال الإرشاد و العلاج النفسي . علينا في هذا الصدد أن لا ننسى حقيقة المكانة المتدنية للتخصص في أوساط الفلسطينيين لأسباب اجتماعية ثقافية ، و أنه أصبح في الأغلب لطلاب/ات غير قادرين على برامج جامعية أخرى. خصوصا لسهولة القبول، و تكيف الدائرة مع القدرات المتدنية لأغلب الطلاب/ات ، هذا الأمر لا ينفي أن هناك طلاب/ات ينتسبون للتخصص بسبب اهتمامهم به.
الذاتية: أن العدد القليل من الأخصائيين النفسيين بالنسبة للحاجة المتنامية لخدمات الصحة النفسية يشكل العامل الأول في معيق العلاج النفسي الذاتي، هذا الأمر بالذات يخلق حاجة كبيرة في كل من موضوع الإشراف المهني ، و تلقي العلاج النفسي للمعالجين/ات أنفسهم ، وضغط كبير من حيث تقسيم الوقت على الحاجات المتعددة(37) . في المقابل فأن إشكالية مشابهي المعالجين تشكل العامل الثاني في معيق العلاج النفسي الذاتي ، فالكثير من المرشدين /ات النفسيات ، يتعرضون للإجهاد في مقابل متطلبات العلاج النفسي و قدراتهم الفعلية على القيام به ، و بعضهم يجنح إلى التضخم بسبب الدور العلاجي الذي يضلع به (38) خصوصا في غياب الإشراف المهني ، و العمل الجماعي ، و غياب النماذج المهنية الجيدة في المحيط . أن إقبال الكثير من المؤسسات على تقديم خدمات صحة نفسية و اجتماعية بأي شكل كان لعب دورا كبيرا في ظهور هذه الإشكاليات. و لا يمكن أن نتجاهل أن غياب المواد و المصادر النفسية العلاجية أو القياسية المقننة يلعب دورا مهما في هذا المعيق الذاتي، كما أن غياب التنسيق و التواصل الدوري و الفعال الذي يقوم على خطة أو برنامج عمل يهدف إلى تكوين قاعدة بيانات مشتركة ، و علاقات تبادل خبرات و عمل مشترك بين المختصين و المرافق في البلد ، يلعب دورا لا يقل أهمية عن بقية العوامل في هذا المعيق. أما من ناحية العلاقة بين الطب النفسي و الطب العام من جهة و العلاج النفسي الاجتماعي من جهة أخرى ، فأن هذه العلاقة لا زالت ضعيفة و لا تخلق جوا من التعاون و تقاسم المهام، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالأطباء الذين يتجاهلون العوامل النفسية والاجتماعية في الغالب و كأنها لم تكن. كما أن غياب التشريعات و القوانين التي تحكم العلاج النفسي في فلسطين يزيد من تعقيد المعيق الذاتي للعلاج و الدراسة النفسيين.
الفجوة بين الدراسات و تجربة العلاج النفسي الفعلي.
ماذا لو وقفنا الآن و قلنا، بأن الكثير من الدراسات النفسية الإكلينيكية و الاجتماعية في هذا العرض قام بها أخصائيين/ات من إخوتنا في الداخل الفلسطيني، و بأن بقيت الدراسات التي تتم في القدس الشرقية و الضفة الغربية و غزة ، هي دراسات إحصائية و صفية تجريبية في الأغلب تدور حول الآثار النفسية للعنف السياسي، و هي لا تستند إلى التجربة العيادية بقدر ما تعتمد على العينات العشوائية العامة. و هي بهذا و كما أسلفنا سابقا مهمة جدا و ضرورية بل و خلقت نواة دراسات نفسية متخصصة بموضوع الصدمة و الفقدان على الصعيد العالمي ، غير أنها لا زالت لا تتناول في مضمونها التجارب العيادية المحلية . و لا الاضطراب النفسي بشكل عام ،و لا نسب انتشاره الشبه دقيقة، وهو ما أطلق عليه هنا الفجوة بين الدراسات النفسية و العلاج النفسي.
أن هذه الفجوة كفيلة بأن لا تسمح لمرافق الصحة النفسية التطور بالسرعة الطبيعية ، من حيث أن الدراسات هي الكفيلة بعكس نتائج العمل العلاجي و طبيعته و صعوباته و مخرجاته و طرق تطويره الأفضل، في المقابل فان هذه الفجوة لا تسمح للدراسات النفسية بأن تساهم بطريقة أكثر فعالية في عملية التطور و التطوير و خلق الوعي النفسي و الأرضية النظرية الصلبة لواقع الدارسات و الصحة النفسية في فلسطين.
أن التجربة النفسية الفلسطينية بالرغم من يفاعتها و لين عودها على الصعيدين العلاجي و الأكاديمي ، غير أنها قطعت أشواط مهمة و ضرورية في العمل الأكاديمي و العلاجي،خصوصا في ظل الظروف القاهرة و الصعبة للشعب الفلسطيني، غير أنه لا زال ينقصها الرابط الذي سيجعل منها أكثر إنتاجية و فائدة. غير أن هذا الأمر لا ينفي أن الطريق لا زالت طويلة أمام البحث و العلاج النفسي، في ظل المعيقات التي حاولنا أن نتطرق لجزء منها في هذه الورقة. و لهذا الأمر و ربما لهذا الأمر بالذات فان العلاج و الصحة النفسية بحاجة ماسة للدراسات النفسية ، و العكس صحيح ، لان الدراسات النفسية لا يمكنها أن تتجاهل التجربة العيادية إلى ما لانهاية لأنها بهذا تفقد العلاقة مع واقع العلاج النفسي و التجربة العيادية في فلسطيني.
توصيات.
1- أن تأخذ المؤسسات المختلفة العاملة في مجال الصحة النفسية بالحسبان أهمية وجود قاعدة بيانات واحدة و مشتركة، تمكننا من تكوين تصور شامل و دقيق عن واقع الصحة النفسية و العلاج النفسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
2- ضرورة أن تهتم المؤسسات و المرافق بقضية التشبيك و التعاون الحقيقي و المثمر فيما بينها، بما في ذلك تبادل الخبرات و البيانات.
3- الدفع نحو تشكيل لجنة وطنية مكونة من المؤسسات العاملة في مجال الصحة النفسية ، قادرة على قياس و تقيم وضع الصحة النفسية في الأراضي الفلسطينية و إصدار تقرير بذلك.
4- تكوين فرق بحث للعمل في مجال تحليل البيانات و وضع الفرضيات و استخلاص النتائج بخصوص التجربة العيادية و أنماط المستفيدين منها.
5- الاهتمام بتطوير برامج دراسية مهنية و ذات مستوى عالي في مجال علم النفس العيادي و الإرشادي و التجريبي و الاجتماعي في الجامعات الفلسطينية.
6- خلق برامج تدريسية مشتركة بين الجامعات و المؤسسات العاملة في مجال العلاج و الصحة النفسية. غايتها تخريج مختصين في مجال العلاج و البحث النفسي.
7- الاهتمام بتطوير فرضيات بحث تهتم بواقع العلاج و الصحة النفسية.
8- الاهتمام بتطوير و تأهيل برامج وخدمات العلاج و الصحة النفسية في المؤسسات الغير متخصصة.
9- تطوير و تدعيم الإرشاد المدرسي كيفيا و نوعيا ، من خلال زيادة عدد المرشدين/ات المؤهلين من خلال برامج الدراسة الموصى بها سابق، و من خلال الاهتمام و تطوير مكانة و موارد الإرشاد النفسي في المدرسة، وهو الأمر الذي سيقود حتما إلى خلق قاعدة بيانات هائلة و عينة دراسة طولية ستسهم في تطوير الدراسات النفسية المتعلقة بصحة الطفل و المراهق ، و التحصيل الأكاديمي،و تأثير البيئة الاجتماعية و العائلة على الصحة النفسية لهما. كما أن هذا الأمر سيجعل من الممكن نشر فوائد و مخرجات العلاج النفسي بطريقة أوسع.
10- الاهتمام بتدريب و توعية الأطباء العامين و الإخصائين حول الاضطرابات النفسية، و أهمية تقديم الدعم النفسي و الاجتماعي في حالات الاضطرابات الجسدية المختلفة و التي تنجم عنها أعراض نفسية.
11- الاهتمام بدراسات الحالة ، و توفير الأرضية المنهية و النظرية لتطوير هذه الدراسات و تشجيعها.
12- خلق تعاون و تشبيك مع جهاز الإحصاء المركزي و الضغط من اجل توقير بيانات معقولة و موضوعية حول الاضطراب و الصحة النفسية في المجتمع الفلسطيني.